حين مشى الضوء معنا… ولم يكن في جيب أحد

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

قرأت رسالتك يا العزيز سيد منيسي، كما تُقرأ بعض الكتب حين تشبهك، لا تفتحها بعينيك، بل تفتحها بروحك، وتدخلها دون استئذان لأنك كنت فيها منذ الصفحة الأولى. قرأتها بين السفرات، ومقامات التعب، وجلسات التخطيط، فوجدتها وطناً صغيراً جاءني على هيئة كلمات. لا تبالغ، لا تتكلف، لا تُجيد التجميل، لكنها تُتقن الصدق حدّ البكاء.
أيها العزيز…
لقد قلت عن الرحلة ما لم أكن أجرؤ على قوله، ووصفتَ ما حدث كأنك كنت تسكن داخلي، وتعرف متى صمتُّ ولماذا، ومتى ضحكتُ وما الذي كان خلف الضحكة. وذاك أمر لا يفعله إلا مَن سكن المعنى، لا من صحب الأقدام.

في موريتانيا، كنت أبحث عن ضوءٍ يشبه البدايات، عن ترابٍ ما زال يحفظ خطى العلماء، عن صدورٍ تحفظ قبل أن تكتب، وعن وجوهٍ إذا نظرتَ فيها عرفتَ أن هذه الأمة لا تموت. فوجدتك قبلي في كل هذا. وجدت فيك الوفاء، والدهشة الأولى، والاحترام الذي لا يُملى بل يُنسج، جلست إلى جانبي في لقاءات لا تُوثق، لكنّها كُتبت في صفحات من نور، في قلب البلد وفي قلبك، ثم كتبتَها للناس بمدادٍ لا تملكه إلا الأرواح النقية. وشهدتَ عليّ حين كنت أعدّ الشاي بيدي، وأقطع الحلوى، لا لأُبهر أحدًا، بل لأنني كلما جلست مع أهل الفضل، تذكرت أن من لا يخدمهم، لا يستحق صحبتهم.

وفي موريتانيا، كان الأصدقاء يكرمونني بما لم أتوقع، لا لأنني أستاذ، ولكن لأنهم كانوا يقرؤون شيئًا في العين لا يُقال. وكانوا يفرحون بالمكوث، لا من أجلي، بل لأنك كنت بينهم، تُمهّد القلوب، وتجمع الأرواح، وتُشعرهم أن الضيف لا يأتي وحده، بل يحمل معه معنى أوسع. وكانوا كلما التفّوا حولي، شعرت أنني أُكرم فيك، لا في ذاتي.

ثم انتقلنا إلى كوت ديفوار(ساحل العاج). تغيرت الملامح، وضاق الوقت، وازدادت الملفات، لكنّك ما تغيّرت. كنتَ كما أنت. عينٌ ثالثة، وروحٌ ثانية، ومرآةٌ لم تزدني إلا وضوحاً. أدخلتني إلى الميدان دون ضجيج، وأجلستني حيث يجب أن أجلس، وجعلتني أُصغي لما لم يُقل. وكنت في كل خطوة تقول دون كلام: “اطمئن… ما دمتَ هنا، فأنا معك”. رافقْتَني لا لتكتب تقريرًا، ولا لتؤرّخ مهمة، بل لتعيشها كما ينبغي أن تُعاش، ومعك تعلّمت من جديد أن العمل حين يسكنه الصدق، يصبح عبادة لا تُرهق، وسعيًا لا يُؤجَّل، ومسؤولية لا تطلب تصفيقًا.

يا منيسي…لقد كتبتني، ولم تجاملني. قلت ما لا أقوله عن نفسي، وأخرجت من بين السطور ما لم أُرد له أن يُرى. وهذا هو الفارق بين الصديق، وبين من يُراسل ليقول: “أين وصلت؟”. فالأول يسكن معك دون أن يطرق الباب، والثاني لا يعرف ما خلف الجدار.

كل لحظة كتبتَها، كنتُ فيها. وكل شعور نقلتَه، كنت أشعر به. لكني لم أكن أعلم أن أحدًا سيلتقط تلك اللحظات، ويعيدها إليَّ بصورةٍ أجمل مما عشتُها. وهذا ما يفعله الكبار حين يكونون شهودًا على التفاصيل، لا مجرد مارةٍ عابرين.

أما تلك الجملة التي حفرتها من صوتي: “الراحة للرجال غفلة”، فهي ليست حكمة، ولا شعارًا. إنها ألمي، ودرسي، ووصيتي. وهي الجملة التي أخاف أن تموت إن لم تجد أمثالك ليحملوها. قلتُها لك كما أقول لنفسي كل ليلة. وها أنت جعلتَها عنوان الرحلة.

وصدقني…
إن كانت الرحلة من دونك لما اكتملت، لكانت ناقصة. وإن كُتبت في غيابك، لما كانت هي ذاتها. كنتَ جزءًا من كل مشهد، لا كشاهد، بل كمشارك في صناعة المعنى. حتى السكون كان لك فيه دور.

إن أعظم ما يملكه الإنسان في هذا الطريق، ليس شهاداته ولا مناصبه ولا تقاريره. بل الناس الذين يحملونه حين يتعب، ويُعينونه حين يصمت. وأنت كنت لي ذلك وأكثر.

غفر الله لي تقصيري، ورفعك في مقامات الصادقين، وجعل ما تركته فيّ وفي صحبتك نورًا لا يخبو، ودعاءً لا يذبل، وأثرًا لا يُمحى.
دمتَ كما أنت: رقيق الروح، عميق الإدراك، قوي السند، شريكًا في كل سفر، ورفيقًا في كل درب، ومِرآةً لا تُخدع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top