|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

مساء الأربعاء، الثالث والعشرين من أبريل 2025، كان ضوء الغروب في نيروبي يستعير شيئًا من طيف المانجو المتدلّي على شرفات البيوت القديمة، حين اندفع عمار يحيى— ذو العامين وعقد الثقة المنثور في عينيه ــــ إلى بيت جدّه كأنّه سفيرٌ صغيرٌ لبعثةٍ سرّية لم تُدوَّن في السجلات. حذاؤه الملوَّن يخبط بلا انتظام فوق البلاط الإسمنتيّ، وصوت ضحكته يفيض من قلب الدار أشبه بجرس كنيسةٍ يستعجل المؤمنين إلى قدّاس الغبطة.
وقف الجدّ، د مدحت عطية، على عتبة الصّالة يرقب خطوات الحفيد كمن يقرأ سِفْرًا من ذِكرى لم يكتبها أحد. ثمّ التفت إلى جدته وقد أسندت ظهرها إلى الحائط تستمتع بالمشهد:
ــ “عن ماذا يبحث صغيري؟”
لكنّ السؤال لم يبلغ مسامع عمار، كان منشغلًا ببعثرة وسائد الأريكة، يزاحم دفاتر الجدّ المخطوطة في إدارة الأوقاف. ظلّ يُقلّب الوجوه المألوفة بقاموسه الطفوليّ حتى استدار صوب جدّه فجأة، وارتسم على ملامحه قطافُ حيرةٍ لا يطيقها غير الملائكة: ــ “جدو… محمّد؟”ـــ قالها بلهفةٍ تتجوهر في حرفين.
تثبّت الجدّ من نظرة الحفيد، وأدرك أنّ الاسم الواحد يكفي ليُشعل ألف مصباح في ذاكرةٍ تشحّ بذخائرها إلّا لمن فتح صُندوقها بمفتاح البراءة. لقد كان “جدو محمد” صديقه الحميم، كاتبَ الصدور والمراسلَ الخفيّ لرقةٍ لا تغيب. جاء بالأمس ـــ فيما بدا الرَّبيعُ يتفتّح من نافذة المطر ـــ وجلس يُداعب أراجيح عمار الورقية، يتظاهر بالخسارة حين ينتصر الصغير، ويُطلِق ضحكةً تشبه زقزقة العصافير على سور جامعة نيروبي.
في مساءٍ واحدٍ، نسج الرجل الرحب جسرًا من خيطٍ غير مرئيّ يصل جيلين لا تعرفهما القواميس: رجل بلغ عمره اثنتين وستون عامًا ، وطفلٌ يُفْرط في توزيع الدهشة كما توزَّع بذور البونسيانا الحمراء في حدائق كينيا. لكنّ جدو محمد غاب اليوم، لعلّه شغلته دهاليز العاصمة أو حُبست بسمةُ قلبه في ازدحام الطريق. ومع رحيله الغامض طار شيءٌ من أجنحة الصغير، كأنّ لعبة الأكريليك الأخيرة انفكّت عن خيطها المعلّق على شبابيك الوقت.
اقترب الجدّ، جلالُ الحكمة يسبق خطاه، وجثا إلى مستوى الحفيد يوشوشه بدفء: “يا عمار، جدو محمد ليس هنا الآن يا بنيّ… سيعود غدًا. ما رأيك لو ننتظره بقصّةٍ عن أسود الماساي، أو بعزفٍ على دفّ جدّتك اللازَوَرْدي؟” لكنّ الطفل هزّ رأسه في إصرارٍ جميل، وراح يركض نحو الممرّ كمن يسابق ظِلَّه إلى نهاية الشغف، يفتح الأبواب واحدًا تلو آخر يبحث عن حافة منامٍ ترك عليه محمد بصمة ضحكته. وحين طال صمته، خُيِّل إلى الجدّ أنّ الوقت نفسه عالق في جيوب الجدران ينتظر تفسيرًا لهذه الملاحقة العاطفية التي لا يقدّرها سوى من تذوّق خَمر البراءة.
في تلك اللحظة انفتحت ذاكرة الجدّ على مشاهد شبابه مع محمد: رسائل نسخوها على مكاتب وجدران دكا العاصمة البنغالية في التسعينات، وأدلة الاجراءات في الادارة والمشروعات والعلاقات والشراكات وغيرها من دراسات تسويقية وتقارير العملاء والجهات المانحة، استدار إلى الحفيد ليجد نفسه يُحَدِّث نسخةً مصغّرة من أملٍ لم يبرد رماده بعد.
استدعى الجدّ ابتسامةً مجلوّة بالدمع وقال: “تعال، سأُريك شيئًا سيُسعد قلبك حتى يعود جدو محمد من غيبته الصغيرة.”
أمسك بكفّ عمار الطرية، وسار به إلى غرفة المكتب، حيث اصطفت طوابع البريد من زمن الحماية البريطانية جنبًا إلى جنب مع قلائد السواحل الشرقيّة. فتح درجًا وأخرج طائرةً ورقية كان محمد قد طواها ليلة الأمس من صفحةٍ استقطعها من ديوان لشاعر صوماليّ مجهول. على جناحها المثلث كُتبت بخطٍ مرتعش: “للحلم جناحٌ صغيرٌ يكفيه طفل”
سلّم الجدّ الطائرة إلى حفيده، وإذا بعمار، ككابتن سفينةٍ على وشك الرحيل، يشرح ذراعيه ويركض نحو الحديقة الخلفية. تلهو ورقات الجاكاراندا حوله، ويعلو ضحكه مجددًا. أشعلت الطائرة الورقية سماء نيروبي بلونٍ جديد، واندسّ الجدّ خلف الباب الزجاجي كمن يواري دمعةً لا يجوز أن تُرى. ربّت على قلبه، يتلو دعاءً سريًا: “اللهم احفظ الجسور التي يبنيها الأطفال بين ما كنّا وما صرنا، واجعَلْ ضوء محمد رفيقَ خطاهم حين تعتم الدروب”
عند ذروة المساء، عاد عمار وقد امتلأت وجنتاه بوهج الفوز، اتكأ على ساقَي جده وسأله هامسًا:
ــ “جدو… محمد يطير؟”
فانفلتت من الجد ضحكةٌ انفراجية، أدرك بعدها أنّه إن لم يكن الرجل حاضرًا بجسده فقد صار مشاعًا في السماء، يمتدّ في خيط الطائرة وبين ثنيات الهواء:
“نعم يا بني… يطير معنا كلّما أطلقنا هذا الجناح الصغير. وسيهبط غدًا – بإذن الله – ليحكي لك كيف تبدو نيروبي من فوق غيمةٍ خضراء”
انتهى الليل، ولم تنتهِ الحكاية؛ لأنّ مقالنا هذا لا يسكن فصلًا في التاريخ، بل يسكن نبضًا في صدر طفلٍ يفتّش عن رجلٍ صديق جده الحميم. عمار يحيى ـــ سفير البراءة ـــ رسم لنا بقدميه الصغيرتين خريطة العاطفة التي يحقّ لها أن تفتح القفل القديم على مخازن الحنين. وهو في سعيه البسيط أثبت أنّ أعظم الشراكات التنموية ليست مشروعاتٌ تُرصَّع بالخرسانة أو تُوقَّع بحبر الوزارات، بل هي اللحظات التي يلتقي فيها عهد الشباب بفضة الشيخوخة على أرضٍ من سنديان القلوب.
وسيبقى بيت الجدّ في نيروبي شاهدًا — ما توالت عليه غيوم المطر الكينيّ — أنّ إرث الصداقة يُعاش في عيون الأطفال قبل أن يُروى في كتب المؤرخين. فما حدث مساء الثالث والعشرين من أبريل 2025 هو درسٌ صامت: أنّ أجنحة الطائرات الورقية تعلّمنا كيف نخاطب الغائبين، وأنّ سؤالَ طفلٍ واحدٍ قادرٌ على إعادة هندسة الذاكرة الوطنية لجيلٍ كامل، ألا قد طارت الطائرة، ولا يزال القلب يُطارد خيوطها… فافتحوا النوافذ، ودعوا الصغار يخبرونكم عمّن يبحثون. ففي لهفتهم تنبت المعجزات.