تياغو أفيلا… حين جاء النُصرة من الجهة الخطأ!

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

ما من أحدٍ في غزّة يعرف اسمه. لا طفلٌ يتذكّر ملامحه، ولا أمٌّ قد علّقت صورته على جدار بيتها المهدم، ولا جدّةٌ نادت عليه تحت الأنقاض. ومع ذلك، فإن رجلاً من أقاصي البرازيل يُعيد تعريف البطولة اليوم من غير سلاح، ومن غير وطن محتل، ومن غير شعبٍ ينتخبه أو يهتف باسمه.
تياغو أفيلا، شاب برازيلي لم يحتج أن يكون فلسطينيًا ليتألم، ولم ينتظر نشرة أخبارٍ ليتحرّك. جاء من الضفة الأخرى من العالم، لا مدفوعًا بأوامر حكومة، ولا محسوبًا على تيار سياسي، بل مدفوعًا بشيء لا يُقاس: ضمير حيّ، يشبه تلك الضمائر التي كتب عنها غاندي، يوم قال: “اللاعنف لا يعني الركون للضعف، بل مقاومة الطغيان بقوة الروح.”

ركب تياغو سفينة “مادلين” مع قوافل أسطول الحرية، وكان يعرف مسبقًا أن السفن قد لا تصل، وأن البحر ليس فقط مالحًا، بل مملوء بالبارود والجنود والقراصنة بلباس رسمي. لم يكن يظن أنه سينتصر، لكنه كان يعرف أن الصمت خيانة. ولم يكن يبحث عن مجد، بل عن معنى. فلما اعتُقل، لم ينهزم.
ولما وُضع أمامه ورق التعهد: “لن أعود مرة أخرى”، رفض. قالوا له: عُد إلى البرازيل بصمت، بلا ضجيج، بلا تصريحات، بلا موقف. فأعلن الإضراب عن الطعام. ما أشبهه بمانديلا حين قال: “هناك أشياء لا يمكن شراؤها: الكرامة واحدة منها.”

وقف تياغو في قلب السجن الإسرائيلي ليس كمواطن أجنبي في ورطة، بل كإنسان يرى أن هذا العالم يحتاج من يوقظ فيه نبضه المعطوب. لم يأتِ مدفوعًا بحسابات الشرق الأوسط، بل بقيمٍ بسيطة: أن الأطفال لا يُحاصرون، وأن البيوت لا تُقصف، وأن الألم لا يحتاج ترجمة. هذا الذي لم يعرف حيًّا في غزّة، ولا مسجدًا، ولا شهيدًا، صار هو نفسه أحد معالم النخوة في زمن خرس فيه الأقربون. كثيرون في العواصم العربية يملكون جوازات سفر دبلوماسية ولم يتحركوا، وها هو بلا منبر ولا حزب ولا قبيلة، يجرؤ أن يقول: “لا”، في وجه الجبروت.
تياغو ليس قديسًا، ولا نبيًّا. هو فقط إنسان كما أراد أن يكون النبي محمد ﷺ حين قال: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد…” وكما أراد المسيح حين صاح في وجه الكهنة: “الويل لكم يا مراؤون!”. هو صورة من أولئك الذين لم تلوّثهم السياسات، ولم تُخرسهم المنصّات، ولم يحرّكهم إلّا الألم الخالص.

لم يقل: ليست قضيتي.
لم يقل: مالي ومال الشرق الأوسط.
لم يرفع شعار “Brazil First”، بل رفع رأسه حين انحنت رؤوس كثيرة.
اختار أن يكون في الجانب الصعب من التاريخ، لأن الجانب السهل مزدحم بالمجرمين. تياغو يشبه أحرارًا مرّوا بالتاريخ ثم اختفوا دون ضجيج:
يشبه الشابة الأمريكية “رايتشل كوري” التي دهستها جرافة الاحتلال لأنها وقفت بجسدها تحمي بيتًا فلسطينيًا. ويشبه جان بول سارتر يوم قال: “أخجل أن أكون محايدًا في قضية عادلة.” هذا البرازيلي اختار أن يكون في عين العاصفة لا لأنه يهوى الألم، بل لأنه آمن أن الحياد في المذابح ليس حيادًا، بل تواطؤ. وأن الكلمة الصامتة، في زمن الذبح، جريمة.

إن كان تياغو عربيًا، لقالوا: واجبه.
وإن كان مسلمًا، لقالوا: طبيعي.
لكنه جاء من خارج السياق، من جغرافيا لا تتقاطع مع فلسطين إلا على خريطة الإنسان. جاء ليقول لنا شيئًا صاعقًا: “أنتم لستم وحدكم، لكن بعضكم نائم أكثر من البعد الجغرافي.” تياغو لم ينقذ غزة من الحصار. لكنه أنقذ شيئًا في الإنسانية من الاختناق.أنقذ الوضوح من الالتباس، والحق من الغموض، والحرية من الحياد. ولذلك، سيسجّله التاريخ لا لأنه أوقف آلة القتل، بل لأنه رفض أن يكون صامتًا بينما تعمل.

وها نحن اليوم نكتبه. لا لأنه برازيلي. بل لأنه إنسان، بما تحمله هذه الكلمة من نُبل، ونُدرة، ونُور. سيأتي يوم يُسأل فيه أطفال فلسطين:
من الذي نصركم يوم خذلتكم الأمم؟ فسيقول التاريخ: رجلٌ جاء من الجهة “الخطأ” في الجغرافيا، لكنه وقف في الجهة الصحيحة من الكرامة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top