|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

الحياة ليست دائمًا عادلة، لكنها معلم صارم، تُوزّع دروسها بين صفعاتٍ مؤلمة ولمساتِ حنوٍّ نادرة، أصعب ما فيها، أن تأتيك الطعنة من يدٍ كنت تراها امتدادًا لقلبك، أن تكتشف فجأة أن من شاركك الأحلام هو ذاته من كسرها.
الصدمة لا تأتي من قوة الصفعة، بل من قرب من وجّهها. كيف لقلبٍ أحببته، وثقت به، أن يتورط في إيذائك دون تردد؟ تتساءل وأنت تلملم شظاياك: هل الحب يصنع لنا جناة من أحبّتنا؟ لكن الحياة، رغم قسوتها، لا تتركك في الظلمة طويلاً، قد يمتد إليك دفءٌ من غريبٍ لم يجمعك به سوى إنسانيتكما، يمسح دمعتك، ويمنحك لحظة صدقٍ خالصة… من لا شيء إلا الرحمة. في تلك المفارقة، تنشأ أسئلتنا الأعمق: لماذا نجد أقسى الصفعات من الأقربين، بينما تأتي ألطف اللمسات من غرباء؟ في علم النفس الاجتماعي، تشير الأبحاث إلى أن الصدمة العاطفية تبلغ ذروتها حين تأتي من المقربين، لأننا نربط جزءًا من هويتنا بهم.الغريب لا يملك مفاتيح قلبك، أما القريب فتعلمها بيديه، ويعرف تمامًا كيف يُوجعك.
كما قال نيتشه: “كل حبٍّ يريد أن يُرى، وكل عمقٍ يودّ أن يظهر”. لكن حين يتوارى هذا العمق خلف خيانة، يصبح الجرح نزيفًا لا يُرى، لكنه يُشعر.ولا عجب أن يسعد بعض الأقربين بسقوطك، لا حقدًا دائمًا، بل لأنهم يرون في ألمك عزاءً لمواجعهم المكبوتة. كتب ألبير كامو: “في أعماق الإنسان ميلٌ مظلم لرؤية الآخرين يسقطون، كي لا يشعر أنه سقط وحده.” الغريب، على النقيض، يدخل حياتك صفحة بيضاء. لا يحمل تراكمات، ولا مقارنات، ولا مشاعر مؤجلة. يحبك للفعل، لا للتاريخ، ويمنحك دعمه لأنه إنسان، لا لأنه مضطر.
تأمل ما حدث في كارثة تسونامي اليابان عام 2011، حين خاطر عشرات الغرباء بأرواحهم لإنقاذ آخرين لا يعرفونهم. العلماء أسموها “مفارقة الإيثار العشوائي”، وجين غودال وصفتها بأنها: “أعلى درجات التطور الإنساني.” وفي مقابل من يطعنك باسم القربى، قد يُبعث لك غريبٌ ليعيد بناء ما هدمه الأحبّة. لكن، ماذا نفعل بهذه الحقيقة القاسية؟ هل نغلق قلوبنا؟ أم نعيد تعريف الثقة؟ تقول مستغانمي: “الإنسان وحشٌ رقيق، يذبحك ويبكي عليك.” ويونغ يُذكرنا أن التناقض جزء من الطبيعة البشرية. لسنا أنقياء تمامًا، ولا مذنبين بالكامل.
كلٌّ منا قادر على الحب والخيانة في اللحظة ذاتها. وهنا ينصح جبران: “لا تبكِ على من خانك، بل اشكر من وقف معك، حتى لو كان اسمه ‘غريبًا’.” إنه درس في إعادة التوازن: لا نغلق القلب، بل نعلّمه أن يُحسن الاختيار. ربما أعظم ما نفعله بعد السقوط، هو أن نُصبح نحن ذلك “الغريب” الحنون في قصة أحدهم. كما قيل: “لا تحمل جُرحك كشاهدٍ على قسوة العالم، بل كبذرةٍ لرحمته.”
الحياة بندولٌ يتأرجح بين القسوة والرحمة، لكن كل صفعة تُعلمك الشجاعة، وكل يدٍ تمتدّ لك من العدم تُعيد لك الإيمان بالناس. ولا تنسَ – كما قال شكسبير –“الرحمة نزولٌ من السماء، بها تُحكم الأرض.” والقلوب، مهما انكسرت، تبقى قادرة على أن تُحبّ من جديد…وربما في ذلك وحده، خلاصنا الأجمل.