|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

صوت الإنسان حين يعجز النظام
ما أصعب أن تُصاب المنظمات بالخرس في ساعة الخطر، فتفقد لغتها أمام أزمة لا تندرج في لوائحها! وما أندر أن ينبثق الصوت الإنساني من عمق الصمت المؤسسي، ليقود المعنى من الداخل، لا من التعليمات. في واحدة من أشدّ الأزمات حدّةً، عصفت بجهاز تنفيذي تابع لمؤسسة خيرية كبرى على أطراف آسيا، حيث تكالبت على المكتب الميداني ضغوط متداخلة؛ نقص التمويل، إغلاق بعض المنافذ التشغيلية، وتوقف عدد من المشاريع الحيوية في التعليم والرعاية الصحية والمياه، بفعل تقلبات سياسية طارئة. ولم يكن للمكتب في تلك البلاد سوى ذات الشيء الذي واجهت به الأمةُ كل عواصفها: إنسان واحد… كان هو المنظومة.
موظف واحد وسقف من الخشب
في مقر متواضع لا تزيد مساحته على شقة صغيرة، وبإمكانات لا تتجاوز جهاز حاسوب قديم ومروحة سقف تتأرجح، اجتهد مدير المكتب الميداني وحيدًا، إذ تزامنت الأزمة مع غياب الدعم الإداري والميداني بسبب توقف الحركة الجوية وانقطاع الاتصالات عن المكتب الرئيس لفترة من الزمن. لكن الرجل لم ينتظر إشارة ولا طلبًا رسميًا. كتب بخط يده قائمة المشاريع المتوقفة، ورتّب أولوياتها وفق الأثر الإنساني، وبدأ جولة ميدانية عبر دراجته النارية لزيارة كل موقع مهدد بالتوقف. لم يحمل في جيبه ميزانية، لكنه حمل قيمة. خاطب الناس بلسان الأمل، وأعاد ترتيب طاقم المتطوعين بما يشبه إعادة تشكيل الجيش في ساحة معركة. في هذا المقام، نستعيد قول إيمانويل كانت: “افعل ما ينبغي، وكأنك بذلك تقيم نظامًا للعالم.” وقد فعل الرجل ما ينبغي، فكان فعله نظامًا صغيرًا، صدًى ميدانيًا لقيم كبرى، لا يَراها من يجلس على المكاتب الوثيرة.
أزمة تحوّلت إلى منجم للابتكار
ومن رحم هذه العُسرة، وُلدت أفكار ما كانت لتخطر ببال المؤسسين في أفضل ظروفهم. إذ ابتكر المكتب نظام تدوير داخلي للموارد، سمّاه الموظفون “سلة الخير”، حيث يتم اقتطاع جزء يسير من الحوافز الشهرية لبعض المشاريع لتغطية النقص في أخرى. كما شجّع بعض المتبرعين المحليين على رعاية مؤقتة لمشاريع مهددة، ريثما تُستأنف العمليات الرسمية.
هنا يستحضرنا قول مالك بن نبي: “إن الحضارات لا تنهض من فوق إلى تحت، بل من تحت إلى فوق، تبدأ بالإنسان ثم تتسع إلى المؤسسة.” فحين تفشل الأدوات، يبقى الإنسان هو الأداة، والمعيار، والحل.
حين يُعاد تعريف النجاح
إن ما يحسب لهذا المشهد الفذّ، ليس نجاحًا تشغيليًا فحسب، بل إعادة تعريف لمفهوم النجاح نفسه. إذ لم يكن المراد إنقاذ المشاريع، بل إنقاذ القيمة في وجدان الناس. لم يكن الانتصار في استمرار العمل، بل في استمرار المعنى.وفي وقت لاحق، حين عادت القنوات الرسمية للعمل، واطّلعت القيادة العليا على التقارير، فوجئت أن مؤشرات الأداء للمكتب – وسط الأزمة – فاقت بعض الفروع التي لم تمر بأية عاصفة. فقرّرت المؤسسة اعتماد كثير من آليات ذلك المكتب كـ “أفضل ممارسات إدارة في وقت الضيق”.
من الإنسان إلى الإنسان… قصةٌ لا تنتهي
هكذا، من محطة إلى أخرى، مرّت هذه الرحلة في سفراء القيم في ساعة العُسر. لم تكن السلسلة سردًا لأزمات، بل شهادات حيّة على أن القيم لا تُختبر في ساعات الرخاء، بل تُولَد حين يُحتضر المنطق الإداري، وتُضيء حين تنطفئ أضواء الهياكل.
لم تكن البطولات هنا فردية، بل إنسانية بامتياز، تتجاوز الأشخاص إلى روح المؤسسة. فقد كانت السجدة في المسجد، والخطاب تحت الدرج، والدعاء على درج الليل، والدراجة النارية التي تقطع الطين لاختصار المسافات… كلّها علامات على أن إدارة القيم ليست تنظيرًا، بل حياة.
ولعلنا نختم كما افتتحنا، مع استدعاء الرافعي إذ قال: “إن لم يكن للإنسان في عُسره معنى، فلا معنى له في يُسره. وسلام على سفراء القيم… يوم تَعَسّروا، فما تراجعوا.