حين بنت الكويت مدينةً من الرحمة في قلب إفريقيا

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي


وصلتني صورة عبر الهاتف. لم تكن مشهدًا جذابًا بفلترٍ لوني أو لقطة احترافية، بل كانت شيئًا أبعد من الصورة… أقرب إلى الاستفهام. بدا فيها مجمّع متكامل: مدارس تتقاطع مع مستشفى مركزي، مسجد يجاور مبيتًا داخليًا، حدائق تظلل طرقًا إسفلتية نظيفة، وشعورٌ يشبه الطمأنينة ينساب من بين التفاصيل. وفوق الصورة، عنوان بسيط: “مجمع الرحمة التنموي لرعاية الأيتام– جيبوتي”. ثم جاءت الرسالة: “ما هو شعورك وأنت ترى هذا البوست؟” ترددت في الرد، لأن السؤال لم يكن عن الصورة… بل عن العالم خلفها. ذلك المجمّع، الذي شُيّد عام 2007 بدعم كويتي خالص، لا يمكن اختزاله في كونه مشروعًا خيريًا. ما رأيته في الصورة هو مدينة، مدينة مصغّرة بملامح الكرامة، وبنية تنموية عميقة، ولغة مؤسسية ناطقة بالمعايير. فوق ثلاثين ألف متر مربع، نبتت هذه الفكرة واستوت على سوقها: أكثر من ألف يتيم وطالب يتلقّون التعليم والرعاية والصحة والسكن والنمو الروحي في بيئة شاملة، منظمة، وذات رؤية واضحة.

تساءلت: لماذا تأثرت؟

ربما لأن هذه الصورة أجابت عن سؤالٍ أكبر من تفاصيل المباني: هل يمكن للعمل الخيري أن يكون عقلًا كما هو قلب؟ وهل يمكن أن تتحوّل الرعاية إلى مؤسسة، والرحمة إلى نظام؟ إن مجمع الرحمة لم يُبنَ لمجرد الإيواء. إنه ليس مأوىً لليُتم، بل منصة للانطلاق. لا يُقدَّم فيه العطاء كمنّة، بل يُمارَس كحق. إنه إعادة تعريف لمفهوم العناية، حيث الكفاءة التنظيمية لا تُنازع الرحمة، بل تُعانقها. ولعل في كلمات المفكر الألماني ديترش بونهوفر ما يُجسّد هذه الفلسفة: “محكّ أخلاق أي مجتمع هو ما يفعله من أجل أطفاله.”

المكان الذي في الصورة لم يكن صامتًا. كان يتحدث عن ثقافة. عن دولة لم تكتفِ بالتبرع، بل أسّست، وأدارت، وضبطت، واستدامت. فحين تمنحك الحياة فرصة أن تبني بيتًا لطفل يتيم، يمكنك أن تكتفي بجدار وسقف. أما حين تبني له نظامًا متكاملًا من التعليم، والرعاية الصحية، والدعم النفسي، والهوية الإيمانية، فهذا يعني أنك لم تره مجرد يتيم… بل رأيته إنسانًا كامل الأهلية. إن هذا المجمع الذي دعمته الكويت ليس مبادرة خيرية عابرة، بل نموذج حضاري يُعيد صياغة علاقة المانح بالمنح، والمجتمع بالمسؤولية. فمنذ عام 2007 افتتح المشروع، واستمر وتطور، ففي مايو من عام 2015، حققت المؤسسة الإقليمية، ومجمع الرحمة التنموي، ومستشفى الرحمة إنجازًا مؤسسيًا بارزًا، تمثل في حصولها على ثلاث شهادات اعتماد دولية (ISO)، ما يعكس التزامها العميق بمعايير الجودة، والحوكمة، والإدارة المهنية المستدامة وحتى  اليوم، يحقق المشروع إنجازاته ومبادراته، فقد تُوّج بجائزة خليجية كأفضل مبادرة مجتمعية. لم يكن مجرّد نجاح مؤقت، بل تجربة مؤسسية تُضاهي نماذج التنمية المستدامة في الدول المتقدمة.

وبينما كنت أتمعّن في الصورة، تذكرت قول المفكر البرازيلي باولو فريري: “الكرم الحقيقي لا يكون في العطاء اللحظي، بل في محاربة الجذور التي تجعل العطاء ضرورة دائمة.” وهذا بالضبط ما يفعله المشروع. هو لا يعوّض النقص فقط، بل يغيّر البيئة، ويؤسّس لمسارٍ يخرج اليتيم من دائرة الحاجة إلى فضاء الاكتفاء. الأمر اللافت في التجربة أنها لم تكتفِ بالنية الحسنة. كان من الممكن أن تُقام المدارس دون جودة، وأن تُدار العيادات ومركز القلب والمخ والأعصاب دون معايير، وأن يُسكن الأيتام بلا تخطيط بعيد المدى. لكن شيئًا في فلسفة هذا المشروع رفض العشوائية. كل مكونٍ فيه يحمل بصمة إدارة واعية: المناهج مدروسة، التغذية محسوبة، الطاقم مدرّب، التخطيط ممتدّ لعقود. وهذا يذكّرنا بقول هنري فورد: “الجودة تعني أن تفعل الشيء الصحيح، حتى حين لا يراك أحد.”

وهنا تبرز الكويت، لا كجهة مانحة، بل كدولة تتقن فن الغرس. لقد زرعت شجرة، لكنها لم تتركها للريح، بل رعتها، وأظلت بها من لا ظلّ له. المشروع لا يحمل اسم الكويت فقط، بل يحمل خُلقها السياسي: العمل الإنساني لا يُدار بالعاطفة، بل بالسياسة النظيفة، وبالرؤية الممتدة، وبالنية التي لا تسقط حين يتغير الزمن. الطفل الذي يسكن في هذا المجمع قد لا يعرف تفاصيل التمويل، لكنه يعرف شيئًا أهم: أنه ليس وحده. وأن هناك مكانًا آمنًا في هذا العالم خُلق له، خُطط له، صُمم ليناسب احتياجاته ونقاط ضعفه، ومكامن قوته. وذلك كفيل بأن يزرع في نفسه المعنى الذي يُنبت أمة من جديد.

عندما أتأمل هذه التجربة، لا أراها في السياق العربي فقط، بل في السياق الإنساني الأشمل. إنها من الحالات النادرة التي يُمكن تقديمها كنموذج أمام منظمات التنمية العالمية، لتُثبت أن المؤسسات غير الربحية يمكن أن تُدار بجودة، وتُحاسب بحوكمة، وتُستدام بعقل لا يقل احترافًا عن أي شركة عالمية. وقد قال أوغسطين من قبل: “الصدقة ليست بديلًا عن العدالة. لكن يبدو أن “الرحمة” هنا قد تجاوزت الصدقة والعدالة معًا، وحققت شيئًا ثالثًا: الكرامة المؤسسية لمن لا يملك صوتًا. وحين عدت إلى رسالة الصديق، ما زال السؤال ينتظر: ما هو شعورك؟ شعوري أني رأيت ما يُشبه المستحيل وقد تحقق. أن هناك من قرر أن لا يكتب تقريرًا عن فقر إفريقيا، بل أن يكتب فيه سطرًا من الحل،  أن العالم، رغم قسوته، ما زال قادرًا على الإنجاب المعنوي… أن يلد مشروعات من نور. ومشروع الرحمة ليس صرحًا كويتيًا في إفريقيا، بل صرحًا إنسانيًا وُلد في القلب… ثم نبت في الأرض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top