|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

ليست كل المشاريع متشابهة، فبعضها يولد من رحم الحاجة، ويكبر بالجهد الصامت، ويُزهر في مواسم لم يتوقعها أحد. لكنها، رغم تشابه الهياكل، تختلف في شيء خفي: الروح التي أُنفخت فيها، والقلوب التي نبضت لها، والأنامل التي صنعت مجدها بعيدًا عن الأضواء.
إن لكل مشروع عظيم سطرًا أول لا يراه الناس. لحظةً واهية بين الفكرة والخطوة الأولى. وقد لا تكون تلك اللحظة موثقة، ولا محفوظة في الأرشيف، لكنها محفورة في ذاكرة من عاشها. هؤلاء الذين حلموا قبل المخطط، وتخيلوا التفاصيل قبل الخرائط، وأشعلوا شموع الفكرة في عتمة الموارد. إنهم ليسوا بالضرورة المدراء ولا الموقعين، بل قد يكونون موظفًا مغمورًا، أو متطوعًا، أو حتى زائرًا قال كلمة حرّكت ساكنًا. وحين يكتمل المشروع، تنمو حوله الحكايات. يقترب الناس منه، يلتقطون الصور، يروون القصص. لكن شيئًا يبقى أعمق من الصورة وأبعد من القصة: الشعور الخاص لأولئك الذين كانوا هناك في البداية… حين لم يكن هناك شيء.
من كان يومًا فكرة، أو لبنة أولى، أو حتى شاهد عيان على المخاض الأول، يعرف جيدًا أن الإنجاز له نكهة مختلفة حين تكون جزءًا منه. لا غرورًا، بل معرفةً قريبة، وألفةً دافئة، ومسؤوليةً أخلاقية لا تسمح بالتنصل من تبعات النجاح، في مثل هذه اللحظات، يتردد السؤال بين العقل والقلب: هل يجب أن أنكر ذاتي؟ أم أسمح لها ببعض الامتنان؟ هل أكتفي بالصمت؟ أم يحق لي أن أبتسم سرًا لأنني كنت هناك؟ والجواب – لمن وعى – ليس في إخفاء الذات ولا في رفعها، بل في وضعها في حجمها الطبيعي بين الناس، ومع الناس، ولأجل الناس. إن إنكار الذات لا يعني إنكار الدور، بل الإيمان بأن الفضل لا يُختزل في فرد، وأن المجد حين يُقسم، يباركه الله أكثر.
نماذج من النُبل الصامت
في مدينة حدودية، بُني مجمع خيري شامل بدأ كفكرة في رأس شاب ثلاثيني، زار الأرض ليلًا، ودوّن حلمًا في دفتره القديم. لم يُذكر اسمه حين افتتح المشروع بعد سنوات، ولم يكن بين المكرمين. لكنه كان حاضرًا هناك، بين الناس، يتأمل البناء الذي كان يومًا حُلمًا في رأسه، وفي مؤسسة إنسانية كبرى، صمت مجهول النواة الأولى لنظام كفالة الطلاب الذي تحول لاحقًا إلى مشروع رقمي. حين زاره وفد خارجي وسمع بقصته، قال رئيس الوفد: “لو كنّا نحن، لكتبنا اسمك على البوابة.” فأجاب بابتسامة: “يكفيني أن الدعوات لا تُنسى.” في المشاريع الكبرى، كما في الحكايات العظيمة، هناك دائمًا من كَتب السطر الأول، ثم انسحب بهدوء. وهناك من بَنى بصمت، ثم اكتفى بأن يرى الناس يمرّون بأمان. وهناك من قال في نفسه: “يكفيني أن الله يعلم.”
مقارنة بين ثقافات الاعتراف
في بعض الثقافات المؤسسية، تُبنى آلية رسمية للاعتراف بالفضل؛ تُمنح أوسمة، ويُكتب تاريخ المشروع من لحظة ولادته، ويُكرّم أصحاب البدايات، حتى لو لم يبقوا حتى النهاية. بينما في ثقافات أخرى، تُطمس البدايات عمدًا، وتُختزل البطولات في الحاضر فقط، وكأن الاعتراف بالفضل نقصٌ في سلطة من جاء لاحقًا، فالمؤسسات الواعية، تلك التي تنمو أخلاقيًا كما تنمو إداريًا، تعي أن التقدير ليس تهديدًا للسلطة، بل هو ركيزة من ركائز العدالة المؤسسية.
مظلومية شريفة: حين يُنسى الأوائل
كم من الأوفياء صمتوا وهم يرون أسماءهم تُحذف من لوحة الشكر، أو أفكارهم تُنسب لغيرهم؟ كم من الحالمين انسحبوا بشرف حين شعروا أن حضورهم لم يعد مرغوبًا؟ هؤلاء لا يرفعون الصوت، ولا يبعثون رسائل لوم، بل يرفعون عيونهم إلى السماء ويقولون في صمت: “يا رب، أنت أعلم بمن أحسن عملًا.” لكن الجرح يبقى… لا لأنهم ينتظرون التكريم، بل لأنهم آمنوا أن القيم لا ينبغي أن تسقط في لحظة نجاح. وأن الإنسان النبيل، لا يستحق فقط الوفاء، بل يحتاجه ليستمر.
ما الذي نحتاجه؟ نحتاج إلى بيئة تُشبه الإنسان… تُنصف، وتُبصر، وتقول: “شكرًا”، دون خوف من المقارنة، أو وهم الخسارة. نحتاج إلى أنسنة المؤسسات. نحتاج إلى أن نكتب قصص المشاريع كما نكتب قصص الأوطان: بالبدايات، وبأسماء الذين حملوا الشعلة في أول الطريق، لا بأبطال النهاية فقط.
في الميزان الإيماني: لا يُضيع الله أجرًا: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ}، {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا}، {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ؟}، وحديثه ﷺ: “من لا يشكر الناس لا يشكر الله.” هذه ليست آيات عابرة، بل قوانين سماوية تؤسس لثقافة الشكر، وتؤصل للوفاء كقيمة دينية لا كمجرد سلوك بشري. فالتقدير ليس ترفًا، بل ضرورة أخلاقية. لا نُسرف فيه حتى نُقصي، ولا نبخل به حتى نُجحد، نكتبه بلغة الإنصاف، ونقوله بنبرة متجردة، ونترك أثره في الأرواح لا في الصفحات.
ختامًا: الاحتفاء لا يُفسد الإخلاص إن صدقنا، والمهنية لا تعني الصقيع إن أنصفنا، والإنجاز لا يكتمل إن خلت ساحته من الدفء الإنساني، ومن رفق الكلمة، ومن عدل الإشارة. فلنكتب مشاريعنا بلغة النور، ونروي قصصها دون نسيان من حملوا المشاعل في بدايات الليل. وكلما وقفنا على عتبة نجاح، تذكّرنا أن الإنصاف ليس مجاملة، بل تجلٍّ من تجليات الإخلاص الحقيقي.