|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

كان المساء يتهادى بلطفه على المدينة، حين اجتمعوا مجددًا بعد أعوامٍ طويلة. ستة وجوهٍ اختزنتها ذاكرة العمل الإنساني، التقوا ذات يومٍ على صعيد مؤسسة جمعتهم، وفرّقتهم السنون. بعضهم غادر منصبه، وبعضهم استقر في وظيفة جديدة، وبعضهم لا يزال يحمل بين ضلوعه شيء من تلك المؤسسة… وشيء من الحنين.
المكان لم يكن سوى مجلس بسيط، لكن النفوس كانت عامرة: بالقصص، بالأسماء، بالمواقف التي لم تُنسَ. تبادلوا الضحك على مواقف ميدانية، وارتشفوا من الذكرى ما يزيل جفاف الغياب. وفجأة، دون تمهيد، انسلّت جملة من أحدهم: “كنّا نظن بعض المشروعات تسير على خير، لكن الحقيقة… كانت هناك إشكاليات خطيرة في إدارتها.” سكت المجلس لحظة، كما لو أن الهواء قد تقلّص. لم يكن الأمر صدمة، بقدر ما كان استدعاءً لزمنٍ لم يُفتح ملفه على هذا النحو من قبل. فطوال سنوات عملهم في المؤسسة، لم يُشِر أحد إلى مثل هذا. لم تُرفع تقارير، لم تُطلب مساءلات، لم تُثر نقاشات داخلية بشأن تلك الإشكالات… أو هكذا بدا على الأقل.
هل تغيّر شيء؟
هل كان أحدهم يرى ويسكت؟
هل ظهرت الحقائق متأخرة؟
أم أن الذكرى حين تُحاكم، تكون أحيانًا ظالمة بقدر ما تُريد أن تكون عادلة؟ القيادة الرشيدة لا تُعنى فقط بما قيل، بل بما لم يُقل. ولا تزن الأقوال بميزان العاطفة، بل بميزان التوقيت والمقصد. الحكيم الصيني لاو تسي قال ذات يوم: “من يعرف لا يتكلم، ومن يتكلم لا يعرف”… لكن في عالم الإدارة والعمل، الصمت قد يكون حكمة، وقد يكون جريمة، حسب السياق.
في مثل هذا المشهد، لا يكفي أن ننصت لما يُقال، بل أن ننصت أيضًا لماذا يُقال الآن؟ هل يُراد منه تقويم؟ أم تبرير؟ هل نعيد سرد المشهد لصناعة وعي جديد، أم لصناعة متهم جديد؟
إن من أعظم التحديات في ذاكرة المؤسسات هي الانتقاء. هناك من يلتقط من الماضي ما يُناسب روايته، ويُغفل ما يُحرجه. وهناك من يحمل الماضي بأمانة، بكل ما فيه، دون تجميل ولا تجريح. وهنا فقط تبرز نزاهة القيادة، ونضج الأفراد.
أفلاطون في جمهوريته الفلسفية قال: “أول العدالة أن يكون الإنسان صادقًا مع ذاكرته.” وفي العمل المؤسسي، الصدق مع الذاكرة ليس مجرد وفاء، بل ضرورة استراتيجية. لأنه لا يمكن بناء حاضرٍ متين على ماضٍ مشوّه، ولا يمكن رسم مستقبل واضح بنظاراتٍ معتمة تُلبس للسنوات الخوالي.
القائد الراشد، حين يسمع نقدًا عن مرحلة مضت، لا ينشغل بحماية سمعته، بل بتحقيق العدل. يسأل أولًا: لماذا لم يُقَل هذا حين كان يمكن إصلاحه؟ ويُجيب ثانيًا: إن كان ما قيل صدقًا، فلتُبنى عليه آلية تمنع تكراره. ولا يضيّع وقته في تتبع النوايا، بل في ضبط النتائج.
لكن الأصعب أن يكون هذا القائد هو نفسه أحد أبطال ذلك الماضي. هنا يُختبر المعدن الحقيقي: هل سينتصر لحقيقته أم لحبّه لنفسه؟ هل سيكون كبيرًا بما يكفي ليقول: نعم، ربما أخطأنا…أم سيحتمي بهالة الإنجاز، فيخسر مصداقيته؟
القيادة الرشيدة، في هذا الموضع تحديدًا، تُشبه من يحمل مرآة لغيره، ثم لا يخشى أن ينظر فيها هو أولًا. وقد قيل في الحكمة القديمة: “لا يُصلح المرء أمر الناس، حتى يصلح أمره مع الزمن.” لأن الزمن لا يُطوى بالحبر، بل بالأثر. وفي النموذج الأمثل لهذا، تأتي المؤسسات التي تحتفظ بتقارير سنوية لا تُجمّل، بل تُفصّل.
وتُجري مراجعات بعد انتهاء كل مشروع، لا لتقريع الأفراد، بل لتقويم النظام. وتُشجع الموظف أن يتكلم وهو في الميدان، لا أن ينتظر الذكرى كي يكتب شهادته.
أما إذا كانت الشجاعة تأتي فقط بعد الغياب، فهنا يُطرح سؤال موجع: هل نحن نحاكم الماضي لأنه أخطأ؟ أم لأننا غِبنا عنه، ونريد أن نتفوق عليه بشهادة متأخرة؟ وهل من العدل أن نُلقي حجارة النقد من على ضفة الأمان، بينما كنا نلوذ بالصمت حين كان الموج عاليًا؟ في لقاء كالذي حدث، تتجلى القيم كما تتجلى الوجوه. فمن صمت في وقته، ثم تكلم بعد سنين، عليه أن يزن كلامه بميزان الإنصاف، لا الإدانة. ومن تصدّر يومًا، عليه أن يفتح صدره للنقد، لا أن يتحصّن خلف المجد.
وفي النهاية، الذكرى لا تحاكم النيات، بل تحاكم الأثر. والقيادة لا تبنى على استذكار الهفوات، بل على توثيقها لتكون درسًا، لا وصمة. وما من مؤسسة ترتقي، إن كانت ذاكرتها قُدّت من هوى، أو غُلّفت بالعتب. فإننا لا نحتاج إلى ذاكرة تُبرّئ، ولا إلى ذاكرة تُدين، بل إلى ذاكرة تُرشد.
وذاك هو جوهر القيادة الراشدة… أن تتذكر لتتقدّم، لا لتتراجع. وأن تُنصت لما قيل… وما لم يُقل.