حين تُطرق أبواب الفتوى بأمانة القلب

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

كان الفجر لا يزال يتمطى في الأفق، والهدوء يلف البيت بأطرافه، حين جاءني ابني وأنا في مجلسي بالصالة، يحمل في ملامحه ما يشي بأن بين يديه أمرًا ليس ككل الأمور، وعلى وجهه ما يشي بأن القادم ليس طلبًا عابرًا، ولا حديثًا مكرورًا. جلس بهدوء، وقال بصوتٍ خافت: “يا أبي، صديقي أرسل لي رسالة صوتية، فيها مسألة تشغله كثيرًا… وأوصاني ألا يسمعها أحد، لكنني أخبرته أنك وحدك ملجئي في مثل هذا الأمر.” نظرت في عينيه، فرأيت شيئًا من الهيبة، ومن رجفة من يحمل أمانة ليست له، لكنها أصبحت فيه. مدّ إلى هاتفه، فاستمعت. كان الصوت خفيضًا، لكنه مثقلٌ بالمسؤولية. سؤالٌ فريد، شائك، فيه مسحة خوف من الله، وحذر من الوقوع في محظور، أو تفريطٍ في حق. لم يكن سؤاله عن ذاته، بل عن قرار داخل مؤسسته… قرار يُحتمل أن يكون بين الحل والحرمة، ويمسّ واقع الناس، وثقة المانحين، وضمير المؤسسة.

ما إن انتهت الرسالة حتى نظرت إلى ابني بعينٍ يملؤها التقدير، وقلت: “أعدها عليّ يا بُني، ففي السؤال صدقٌ يحتاج تأمّله أكثر من مرة. قلت له: “يا بُني… إن صاحبك هذا قد ألقى بين يديك أمانة لا يقدرها إلا من عرف معنى الخوف من الله.” ثم تبسمت وأنا أتأمل سقف الغرفة: “وسؤاله هذا… لا يكفي فيه فقيهٌ يعرف الأدلة، بل يحتاج أصوليًا يعرف كيف تُوزن المصالح، وتُقدّر المآلات، وتُفهم مقاصد الشريعة في واقعٍ معقّد.”

استغرب الابن تلك العبارة. فأكملتُ له: “الفقيه قد يُجيب بنص، لكنه لا يتأمل الظرف، ولا ينظر في السياق. أما الأصولي، فينظر إلى الشجرة كلها، لا إلى الغصن. يتفقد الأرض، والهواء، والثمار. يحكم بعين الرحمة، لا فقط بعين النص. وما أحوج المؤسسات اليوم إلى فقهاء… لهم قلوب الأمهات، وبصائر الحكماء، ومنهج الأصوليين.” ثم استسمحت ابني بأدب: “أدعني أكتب السؤال كما جاء في الرسالة… دون تصرف ولا تهذيب، لأن الأمانة أقدس من الحياء. ولأن الكلمة حين تخرج من قلبٍ خاشع، لا يجوز أن تُعاد بلغة أُخرى.” في تلك اللحظة شعرتُ أنني لست فقط مُفتٍ لمؤسسةٍ تسأل عن حكم، بل شاهدٌ على مشهد نادر من طهارة النفوس، وحياء العقلاء. مشهدٌ فيه شابٌّ في مقتبل عمره، لم يتجاهل سؤالاً بدا له حرجًا، بل حمله بصمت العارفين، ووضعه عند من يرى فيه سعة صدر، وأمانة نقل، وقدرة على التفريق بين النص وروحه.

وها هنا، تتجلى أرقى معاني القيادة الراشدة في المؤسسات: أن يوجد فيها من لا يكتفي بأن يسأل “ماذا نفعل؟” بل يسأل أولًا “هل يرضى الله عمّا نفعله؟” ألا تُستسهل القرارات التي تمسّ المال العام، أو الأوقاف، أو ثقة الشركاء، بل تُعرض على قلوبٍ تخشى أن يُقال لها: “أأمنتم من في السماء؟” أن تكون الفتوى فيها، لا مجرد أداةٍ للشرعنة، بل ضوءًا يكشف مكامن الغموض، ومكيالاً يُوزن به ضمير المؤسسة لا ميزان المصالح فقط، يقول الإمام الجويني في “الورقات”: “الاجتهاد ليس أن تبحث عن الحكم في الكتب، بل أن تنظر في مآلات الفتوى إن قُبِلت، وإن رُفضت، وأن تُقدّر قدر الزمان، وحال المستفتي، وعواقب الجواب.” فأين نحن من هذا اليوم؟ وأين مؤسساتنا من الفقه الذي يُبنى على الخشية قبل البراعة؟

ذلك الصديق الذي بعث بالسؤال، لم يدرِ أنه قد بعث بدرسٍ أعمق من المسألة نفسها. لقد علّمنا أن الشجاعة ليست أن تتكلم، بل أن تسأل. وأن الأمانة ليست فقط في الإجابة، بل في طريقة السؤال. وأن بعض الأسئلة تفضح جوهر أصحابها، تمامًا كما تفضح بعض الأجوبة سطحية من يُصدرها. كنت أفكر في تلك اللحظات، أن مثل هذه الحكايات لا يجب أن تبقى حبيسة الصمت. فالعالم الذي يُفخّم من يملكون سلطة القرار، ويُهمّش من يملكون خشية التبليغ، بحاجة إلى أن يعيد ترتيب الأولويات. بعض الشباب يُربّون أمةً بأدبهم. وبعض الآباء يُربّون التاريخ بلحظة إنصات. وبعض الأسئلة تفتح في السماء أبواب نورٍ، لو كُتب لأهل الأرض أن يروا إشراقاتها، لعلموا أن “الفتوى” ليست فقهًا باردًا، بل حرارة قلبٍ يُريد النجاة. وهكذا، خرجت من مجلس الفجر ذلك وأنا أشعر أنني قد صليت ركعةً سادسة… لكنها ركعة بغير قيام ولا ركوع، بل بخشوع قلبٍ وقف على حدود السؤال، يخشى أن يُخطئ فيُضل، أو يُجامل فيخون. ليت كل المؤسسات تسأل كما سأل هذا الشاب. وليت كل من تصدّر للإفتاء، أن يجيب كما يجيب الأصولي: بنور النص، وظلال الرحمة، وميزان المقصد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top