حين يغيب الضوء وتبقى الذاكرة

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

لم يكن يشغل منصبًا مرموقًا، ولا تصدّر المنصات، ولا كان أول الداخلين إلى قاعة الاجتماعات. ومع ذلك، كانت حضوره أشبه بموسيقى خفيفة في خلفية مشهد مزدحم، لا تفرض نفسها، لكنك تشعر أن المكان دونها باهت. كل من عمل معه، شعر بشيء من الطمأنينة تسري دون أن تُعلن عن نفسها. حديثه لم يكن طويلاً، لكن كلماته كانت كافية. ضحكته لم تكن صاخبة، لكنها كانت تُرمّم الصمت بين الزملاء. بعض القلوب تأتي ومعها دفء لا يُشترى. كان ممن إذا مرّ بك في الممر، تمنيت لو تُطيل الحديث معه بلا سبب. ومتى ما التقيته، خفّت عنك أعباء اليوم ولو للحظات. لم يكن يملك مفتاح خزائن المال، لكنه كان يملك مفاتيح القلوب. ولذا لم يكن غريبًا أن يُجمع الجميع على محبته، وإن اختلفوا في كل شيء آخر.

ثم غادر

غادر المؤسسة كما يغادر النسيم زجاج النافذة… بلا ضجيج. لم يُحط نفسه ببيان وداع، ولم يطلب كلمة شكر. فقط رحل، وظلّ في زوايا المكان أثر لا يُمحى. بقي اسمه على ألسنة الزملاء لأسابيع، وربما أشهر. تُروى عنه المواقف الجميلة، وتُستعاد ضحكاته العفوية، وتُذكر طريقته في الإصغاء التي تُشعرك أنك الوحيد في الغرفة.

 الزمن لا يمشي إلى الوراء

مرت الشهور، ثم الأعوام، ثم جاء اليوم الذي التفت فيه هو إلى ذاكرته وسألها: “عجبًا، لمَ لم يتواصل أحد؟” لم يكن السؤال لومًا، بقدر ما كان حزنًا شفيفًا على رابطٍ إنسانيٍ خفت دون أن ينقطع. ظل يحمل في قلبه ودًا صادقًا، ويفترض أن رسالةً واحدة ستأتي، أو مكالمة عابرة تُعيد شيئًا من ذلك النور الذي عاشه بينهم. لكنه ما جاءه كان الصمت. لا عتاب، لا نسيان تام، بل فقط… صمتٌ يُشبه الفراغ. تُرى، ما الذي يُطفئ حرارة العلاقات حين يغيب المكان؟ هل كانت المودّة مرهونة بالمبنى والمكتب؟ أم أن الناس تبهت مشاعرهم حين يغيب الوجه عن العين؟ أم أننا – في لهاث الحياة – فقدنا القدرة على الاستمرارية في الحب؟ يقول الفيلسوف الألماني هايدغر: “الإنسان لا يسكن العالم بالأشياء، بل بالمعاني.” وإن كانت العلاقة بالآخرين بلا معنى يمتد، فهي ليست سكنًا، بل عبور.قد يقال إن الناس مشغولون. وهذا صحيح. لكن المشغول لا ينسى ما يحب، بل يتسلل إليه ولو برسالة مقتضبة. ويُقال إن الودّ لا يقاس بالتواصل، وهذا صحيح أيضًا، لكنه لا يُحفظ إلا به. فالحب الذي لا يُسقى، يذبل. ومن ظن أن النوايا تكفي، نسي أن الكلمة الطيبة صدقة، والاتصال شفاء، والتذكرة وفاء. قليلون هم أولئك الذين نلقاهم في الحياة، ونشعر أن بداخلهم مصباحًا لا يُطفئه الغياب. أولئك الذين حين تراهم، لا تحتاج لأن تُثبت نفسك، ولا أن تشرح كثيرًا، لأنهم ببساطة… يرونك. لا بمنظار المنصب، ولا بعدسة الإنجاز، بل بعين القلب.

وهؤلاء، حين يغيبون، لا يغيبون.

بل يغيب عنهم بعضنا. لأننا، في واقع الحال، نُحسن استقبال الذين يدخلون حياتنا، لكننا لا نحسن وداع من يغادرها. لا نحفظ عهد الذين جعلوا منّا أفضل، إلا حين تفرض المناسبة أن نكتب عنهم شيئًا. وقلّ منّا من يكتب رسالة حبّ دون مناسبة، أو يطرق باب الوفاء دون طَرقٍ مسبق. الذي يغيب وله في القلوب أثر، لا يحتاج إلى تعظيم، بل إلى استمرار. لأن أجمل ما نمنحه لمن أثر فينا، هو أن نُشعره أن أثره لا يُقاس بوجوده المكاني، بل بامتداده الروحي. وإن كنّا في بيئة مؤسسية، فإن المؤسسة لا تُقاس فقط بما تحققه من أرقام، بل بما تحفظه من قيم. فالذي يزرع في الناس حبًّا ويغادر، يجب أن يُكرم لا لمجرد الذكرى، بل لأنه ساهم في جعل بيئة العمل بيئة إنسانية، لا آلةً باردة.

يُحكى أن حكيمًا زار مدينة قديمة، وسأل أحد أهلها: “من أعظم من مرّ من هنا؟” فقال الرجل: “فلان، لم يكن واليًا ولا قاضيًا، لكنه كان إذا دخل السوق، ابتسمت الأرواح.” قال الحكيم: “وهل تواصلتم معه بعد أن غادر؟” قال الرجل: “لم نفعل.” فقال الحكيم: “إذا، فأنتم فقدتم نعمتين… حضوره، وواجبكم تجاهه.” في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث، ويُستهلك فيه الإنسان كما تُستهلك الملفات، نحتاج أن نعيد تثبيت معنى الوفاء في مؤسساتنا، في صداقاتنا، في أرواحنا. نحتاج أن نُعلّم أبناءنا أن من يترك أثرًا لا يُترك، وأن الكلمة الطيبة بعد الغياب ليست فضلًا، بل دينًا. وأن التواصل بعد الرحيل، ليس اجتهادًا، بل استمرار في بناء الجسور التي بدأت يومًا على مكاتب العمل، لكنها يجب أن تمتد إلى ضفاف العمر، يقول تولستوي: “ليست العظمة في أن تُشعل النار، بل في أن تترك دفئًا طويلًا بعد انطفائها.” فكم من وجوهٍ أشعلت فينا نورًا يومًا، ثم أطفأها الغياب، وبقينا نحن دون أن نمد أيدينا لنقول: شكرًا لأنك كنت هنا. لأنك لم تكن مجرد زميل، بل قطعة من روح المكان. إن كنا نطمح إلى مؤسسات تُحتذى، فلتكن أيضًا مؤسسات تعرف كيف تحفظ من مرّوا، وكيف تواصل من كان لهم في القلب مقام، وفي الذاكرة ظلّ لا يغيب. فالودّ بعد الغياب… هو أصدق الاختبارات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top