|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي

في زوايا الصورة تختبئ حكاية لا تُروى بالكلمات، بل تُحسّ، وتُرتّل على نغمة القلب… حكاية جدٍ اسمه د إسماعيل غريب، بدا كأنه خرج للتو من كتاب قديم عن الرجولة الصامتة، والحب المتقن، والوقار الذي لا يتكلف.
يجلس الجد إسماعيل غريب على الأريكة كمن جلس على عرش المحبة، وبين ذراعيه حفيدتاه: شهد وحنين. لم يكن اللقاء عادياً، ولا العناق عابراً. ثمة ما هو أعمق من حضن، وأدفأ من قماش. إنها لحظة سكنت في الزمن، لا تفسرها إلا الأرواح التي تعرف أن الجد ليس مجرد أبٍ كبير في العمر، بل هو الجذر… هو المأوى حين يتقلب العالم، وهو السند حين تتعثر الخطى. شهد تميل إليه بحياء، تحمل هاتفها بيد، لكن قلبها في اليد الأخرى، تنظر إليه كما تنظر الزهرات لظل الشجرة التي تحميها من لهيب الظهيرة. وحنين، اسمها يشي بما تفعل، تذوب في حضنه وكأنها تسأل الوقت أن يتوقف، أن لا يمر، أن تبقى لحظة الالتصاق هذه للأبد.
الجد، بعينين تخبئان من الحكمة ما لا يُقال، وبوجه يحكي سِفرًا من الزمن، ينظر في الأفق كأنما يسمع أصواتاً لا يسمعها غيره. لربما يتذكر أياماً كان فيها الأب، ثم الأيام التي صار فيها جداً، ثم هذه اللحظة التي صار فيها وطناً. نظراته لا تخلو من وجع، ولا من رضا… كأنما يعرف أن الزمان لا يُمسك، لكنه يُعاش، وأن الحب الحقيقي لا يُقال، بل يُحتضن.
في الصورة لا يظهر فقط ثلاثة أجساد متجاورة، بل ثلاثة أجيال تُكمل بعضها: جيلٌ يحمل الرسالة، وجيلٌ يتلقاها، وجيلٌ لا يزال في طور التشكُّل لكنه يحسّ بالأمان قبل أن يدرك معناه. تلك هي الهبة التي لا تُشترى: أن تكون في حضرة جدّك وأنت تعرف – دون أن يقول – أنك تنتمي، وأنك محبوب، وأنك تحمل من اسمه أكثر من الحروف.
كم من بيوتٍ فرغت من الجد فبردت جدرانها، وكم من لحظاتٍ فاتت دون صورةٍ كهذه فبقيت في النفس حسرة لا تبرأ. أما هنا، فكل شيءٍ في الصورة دافئ: العباءة الوردية، والبيجاما المخططة، والأنامل الصغيرة الملتفة على صدره، وحتى الوسادة في الزاوية، وكأنها شهدت كل الحكاية ولم تنطق. هذه ليست صورة لجدّ يحتضن حفيدتيه. بل هي لحظة انحناء الزمن احترامًا لرجُلٍ لم يفقد مكانته رغم تبدل الأجيال، ولفتات حبٍّ نقيٍّ تخرج من قلوبٍ صغيرة وتستقر في قلب كبير ما زال يعرف كيف يحب دون شروط.
هي صورة عائلة… لا، بل مرآة لروحٍ أصيلة. هي قصة إسماعيل غريب… الرجل الذي لا يحتاج أن يتكلم، لأنه حين يحتضن، يتكلم العمر كله.
