|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

في ردهة صغيرة من ردهات “مؤسسة أسيوية رائدة ” كانت تجلس العجوز تبتسم لصورة قديمة معلّقة على الجدار. الصورة لسبعة أشخاص يقفون على أطراف جبل مكسوّ بالثلج، أحدهم يحمل علم المؤسسة، والآخر يضحك وهو يحتضن آلة تصوير مهترئة. كانت تلك أول بعثة ميدانية خرجت بها المؤسسة إلى الريف عام 1989، حين لم يكن في حسابها البنكي سوى ما يكفي لتمويل رحلة واحدة. لكنّهم خرجوا جميعًا. لا رئيس، ولا موظف ميداني، بل “رفقاء” في درب بدأ بخيمة صغيرة، وتحول إلى شبكة مؤسساتية تمتد اليوم عبر أربع قارات.
في مؤتمرات الأعمال، وفي نشرات الموارد البشرية المليئة بالمصطلحات، قلّ أن نجد حديثًا عن المعنى. عن ذلك الشعور العميق بالانتماء، حين يتحول العمل إلى رسالة، ويتحوّل الزملاء إلى رفقاء درب، لا إلى أرقام في كشوف الرواتب. هذا ما جعل المسيري، يكرر أن “الإنسان ليس مجرد كائن اقتصادي”. كان يقاوم فكرة اختزال البشر في إنتاجهم، ويرى أن الإنسان هو مشروع حياة، لا آلة أداء. وفي هذا السياق تحديدًا، ينهض مفهوم “الرفاقية المؤسسية” بوصفه نقيضًا لتشييء الإنسان في بيئات العمل.
تخيل مؤسسةً لا يبدأ فيها التقييم السنوي بتحديد الإنتاجية، بل بطرح سؤال بسيط: “ماذا تعني لك المؤسسة؟”
في هذه المؤسسة وهو النموذج الآسيوي الذي نستلهم منه، كان المؤسس يردد دومًا: “لا أبحث عن موظفين، بل عن أشخاص يحملون القلق ذاته”. لم يقدّم أغلى مكافآته لمن حقق أعلى نتائج، بل لأول من تعسر مشروعه بكرامة لأنه رفض أن يتنازل عن مبادئ المؤسسة. ذلك اليوم، وقف أحد مديري الفروع، ليقول أمام الجميع: “لقد خسرتُ دعم الجهة المانحة، لأنني رفضت تزوير نتائج التقييم. وأعلم أنني لن أُكافأ، لكنني لم أرد للمؤسسة أن تخسر روحها”.فصفّق له الجميع، وبكى المؤسس، وأعلن أن هذا الموقف هو ما يستحق الاحتفاء الحقيقي.
هنا، يصبح المورد البشري “قيمة إنسانية”، لا “رأسمالًا قابلً للاستهلاك”. وهنا، تبدأ المؤسسة في النمو العمودي، لا الأفقي. لأن النمو الأفقي قد يُسجل في الميزانية، أما النمو العمودي فيُسجّل في الضمائر. وهذا ما تحدّث عنه إبراهيم الفقي، حين كان يقول: “الناس لا يتركون وظائفهم، بل يتركون المديرين”. لأن غياب المعنى، وقتل القيمة، هو ما يحول بيئة العمل إلى طاحونة من التآكل النفسي.
وفي صُلب هذا التحوّل، تتجلّى الرفاقية بوصفها فلسفة عميقة، لا شعورًا عابرًا. فالرفيق ليس فقط من يعمل معك، بل من يحمل همّك، ومن يرى المؤسسة من نافذتك، لا من تقريرك. وهذا ما كتبه الرافعي ، حين قال: “المرء حيث يضع نفسه، فإن وضعها في جماعةٍ صالحة، نُسب إليهم، وسعى إليهم بما يسعى لنفسه”. فالانتماء لا يُشترى بالأجر، بل يُبنى بالصدق والمشاركة والاحترام.
ما الذي يجعل موظفًا بسيطًا في مؤسسة آسيوية، لا يتقاضى أكثر من الحد الأدنى للأجور، يستيقظ في الخامسة صباحًا ليصل إلى عمله بابتسامة؟ ولماذا يرفض عروضًا مغرية في شركات كبرى؟ لأن المؤسسة ليست مكانًا لعمله، بل بيتًا لصوته، ومحرابًا لكرامته، ومنصةً لرسالته في الحياة.
في ثقافة “الرفقة”، تغدو الاجتماعات ساحات حوار لا محاكم تحقيق، وتصبح الأخطاء دروسًا لا تُشهر في وجوه أصحابها، بل تُحمل جماعيًا بوصفها جزءًا من المسار. وحين ينجح المشروع، لا يُكرّم القائد وحده، بل يُكرّم الفريق بوصفه كيانًا متكاملًا، تمامًا كما يصف القائل المؤسسة بأنها “شبكة من العلاقات الإنسانية التي تنبع من السياق، لا من المركزية القهرية”. ربما حان الوقت لنسأل: هل نحن نبني مؤسساتٍ أم نبني فقط أنظمة؟هل نُدير بشرًا أم نُسير آلات؟
هل الموظف في مؤسستنا يشعر بأنه يُستدعى ليؤدي، أم يُستأمن ليشارك؟
إن المؤسسة التي لا تُشرك موظفيها في الحلم، لن تُشركهم يومًا في النصر. والمؤسسة التي ترى موظفيها أُجراء، لن تجد فيهم الرفاق حين تشتدّ العواصف. ولعل أعظم ما يُقال في هذا السياق، أن الإنسان حين يُعامل كصاحب رسالة، يتحوّل من “عنصر إنتاج” إلى “طاقة نهضة”، ومن “موظف يُنتظر منه الأداء”، إلى “شريك يُنتظر منه الإلهام”. وهذا هو الفرق الجوهري الذي تصنعه الرفاقية المؤسسية، حين تُبنى على احترام الإنسان لا استغلاله، وعلى استيعاب ضعفه لا محاسبته عليه فقط، وعلى مشاركته الفرح والحلم لا تحميله النتائج فقط.
لقد أثبتت التجارب أن المؤسسات التي تضع الإنسان في قلب المعادلة، تحصد في النهاية أكثر مما تحققه الأنظمة الصارمة. لأن الإنسان حين يُحترم، يعطي أكثر من طاقته.
وحين يُحتضن، يُبدع أكثر مما يُطلب منه.وحين يُشعر بأنه “رفيق”، يدافع عن المؤسسة كما يدافع عن أهله.
وهكذا، تتحول المؤسسات إلى قوافل من المعنى، تسير لا على أوراق الخطط فقط، بل على خُطى من آمنوا بها، ومضوا بها إلى حيث تُزهر الحياة.