تحت راية الخير… حين تاه العهد بين التنمية والوفاء

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

لم يكن العقد الذي وُقِّع يومها بين المؤسسة الخيرية الرائدة وبين تلك الجهة التنموية، مجرد أوراق تبادلها الأمناء ووقّع عليها المتفائلون، بل كان أشبه بميثاقٍ بين نياتٍ بيضاء وآمالٍ معلقة على سقف السماء.

كانت الرؤية واضحة كطلعة الفجر:
نستثمر في مشروعات تنموية، ونعيد تشغيل العائدات في مشروعات خيرية مستدامة. نربط السوق بالصدقة، والربح بالرحمة، والمال بالأمانة. كأنما الكلمات خُطّت بالحبر، ولكن كتبتها الأرواح.

مرت الأعوام، وجاء الوقت الذي كان يُنتظر فيه الوفاء، فإذا بالوعود تتوارى خلف أرقام السوق، وإذا بصوت العائدات يُبرَّر بصدى تقلبات البورصات، وإذا بمن نادى باسم الخير يلوّح الآن بأسباب الدنيا:
“لم تُحقّق العوائد ما توقعنا، والموسم ليس كما كان، والسوق غير مستقر…” وكأنّ العهد كان مشروطًا بحظ السوق، لا بعهد الضمير.
وكأنّ البند الخفي الذي لم يُكتب، كان: “نفي بالعهد… إن أفادنا.”

وهنا تكسر شيء ما في الضمير المؤسسي. تكسر في روح من آمن أن المؤسسات الخيرية لا تقتات على أرباح الشركات فقط، بل تتنفس من صدق الاتفاق، وتعيش على نبض الالتزام. وهنا، في هذا الفاصل بين النية والفعل، يذبل مشروع، وتضيع بركة، ويختنق الأمل على أرصفة الانتظار. قال أبو حنيفة: “العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ.” وقال الإمام الغزالي: “النية الطيبة لا تصلح فساد الفعل، كما لا يُطهر الماء النجس بالدعاء عليه.”

فما بالنا اليوم نرى باسم الخير من يبرر الإخلال بأنه لم يُرد الإخلال؟
وما بالنا نغض الطرف عن تأخيرٍ يصيب أرواحًا، ويعطل صدقاتٍ، ويؤجل طعام الجياع وبرد الشتاء على اليتامى، فقط لأن تقرير السوق لم يُغلق باللون الأخضر؟

الخطير هنا ليس في ضياع موسم،
بل في ولادة نمط، في أن تتحول الشراكات الخيرية إلى معاملات استثمارية مشروطة، وفي أن يُربط المعروف بالعائد، وفي أن تُمتحن الأخلاق بمنحنى الأرباح.

يا أصحاب المؤسسات، ويا من تمسكون بزمام التنمية: حين توقعون عهدًا مع الخير، فأنتم لا تُوقعون فقط على مشروع، بل على ميثاقٍ مع الله. فليكن للمواثيق عندكم روح، وللاتفاقات عندكم وزنٌ لا تغيّره بورصة. وليتنا نسمع صدى كلمات عمر بن عبد العزيز: “والله ما رأيت حقًا ضاع، إلا كان وراءه تضييع أمانة.” وهل من أمانةٍ أعظم من أن يُعاد ما اتُفق عليه، ويُنفذ ما بُنيت عليه الثقة؟ إن السوق قد تتقلب، ولكن الخير لا يحتمل التقلب.
وإن الربح قد يصعد أو يهبط، لكن صدقة جارية لا يجوز لها أن تنتظر تصريحًا آخر.

أليس من العدل أن نقول لمن أخل بعد سنين: “كنا نظنكم شركاء في الخير، لا تجار توقيت؟” إنها ليست شكوى، بل رسالة ضمير، رسالة تُنقذ بها عقودًا من تكرار الخيبة تحت راية الخير، رسالة تعيد للعهود حرمتها، وللشراكة معناها، رسالة تقول: الخير لا يؤجل، والعهود لا تُبرر بتقارير السوق، والعبرة ليست بالعائد، بل بالوفاء. وحين يُسأل التاريخ عمّن أنقذ روح الشراكة من ضياع، فلعله يذكر هذا المقال، كصرخة ناعمة لكنها نافذة، كصوت صدق لم يساوم، كقلم كتب لا من حبره، بل من يقينه.

فليُكتب هذا المقال، لا ليسجّل موقفًا… بل ليُحفظ ضميرًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top