غزة… آخر المداد، أول الطريق إلى الله

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في هذا المساء المثقل بالخذلان،
جلستُ أمام الورقة البيضاء، لا لأكتب، بل لأعتذر… فما عادت الحروف تُنقذ، ولا الصمت يليق.
غزة تُذبح، ونحن نعدّ التغريدات،
غزة تصرخ، ونحن نحسب التفاعل،
وغزة… تموت، ونحن نعيش.

ما عاد يجدي التجميل، ولا يحتمل المشهد زخرفة البيان. هذا المقال ليس زينةَ حروف، بل زفرةُ روح.
كتابةٌ على لهيب، لا على ورق،
وكل سطر فيه، شهقةٌ أخيرة،
كأن هذا القلم قد قرر أن يموت على عتبة غزة، لينجو بصاحبه إلى الله.

حين تسير في أخبار غزة، كأنك تعبر مقبرةً يتنفس فيها الشهداء، والموتى… ليسوا مَن في الأكفان،
بل نحن، الأحياء بجثث صامتة،
تخشى أن تُسأل: “وماذا فعلت حين صُلبت غزة على مرأى الأمم؟”

غزة ليست مجرد مدينة تُقصف،
بل هي المحكّ الذي يسقط عنده زيف النخوة، ويظهر الفرق بين الرجولة والتصفيق، وبين من يحمل همّها، ومن يحمل هاتفه.

هل تذكرون عز الدين القسام؟
ذاك الشيخ الذي ما عرف المساومة،
ولا تردد في خطوته نحو الجهاد،
حين قال: “من لم يذهب للجهاد بنفسه، فعليه أن يُجاهد بماله ولسانه ودعائه.” فأين نحن من هذا الميزان؟ كم مرة خنّا أمانة اللسان؟
وكم مرة بخلنا بالدعاء؟ بل كم مرة صمتنا، لأن الصمت لا يقطع أرزاقنا،
ولا يُغضب حساباتنا البنكية؟

وها هو أحمد ياسين، ذاك الذي لم يهزم جسده المشلول، بل هزم به أقوى ترسانة عرفها الاحتلال… كان يقول: “جراحنا ليست موضةً لصوركم، بل طريقنا إلى الله.”

وما زلنا ننظر إلى جراحهم، نُعجب بها، ثم نُقلّب صفحات التواصل بحثًا عن فاصلٍ ساخرٍ يُنسينا الوجع. كأننا نحن الجرحى، وهم المرفّهون.

غزة يا أحبتي، لا تحتاج أكثر من قلوب تعرف الله، وقبضات لا تخشى إلا خالقها. لكننا استبدلناها بخطب منمقة، وتقارير استنكار أممية،
تصل دائمًا متأخرة… كعادتنا.

أكتب لكم وأنا أشعر بثقل الأمانة،
لأني لا أدري، هل هذا آخر مقال لي؟
هل سيُحاسبني الله يوم القيامة، ويسألني: “ماذا كتبت حين كانت فلسطين تُغتصب؟” “هل دافعت؟ هل بكيت؟ هل دعوت؟” أم اكتفيتَ بـ”نسخ” الخبر، و”لصق” التفاعل؟

غزة تُقصف الآن، وفي هذا الليل، هناك أمّ تفقد ابنها، لا تدري أين جثته… لكنها تقول: “الحمد لله… هو عند ربه، لا عندهم.”

يا الله، أي إيمان هذا؟ وأي يقين؟
نحن هنا، نبكي من كلمة، ونفقد صوابنا من موقف، وهناك، تُفقد الأرواح… ويُقال: “رضينا، وسلّمنا، وفوضنا أمرنا لله.”

عمر المختار قال يومًا: “نحن لا نستسلم… ننتصر أو نموت.” وغزة لا تعرف الاستسلام، لكن من المعيب…
أن تموت غزة واقفة، ونحن نعيش منحنين.

ما اعتدت القسم، فإن لم تكن هذه المأساةً درسًا لأمةٍ كاملة، فلا دروس بعد اليوم.

من منا سأل نفسه: كم أنفقت لغزة؟
كم بكيت من أجلها؟ كم خططت؟ كم رفعت صوتك؟ أو على الأقل… كم مرة دعوت لها دعاءً كأنك واحدٌ من أبنائها؟

غزة اليوم لا تسألنا أن نقاتل،
هي فقط تسألنا أن نكون صادقين مع أنفسنا. أن نكفّ عن خطابات العجز، وأن نعيد ترتيب أولوياتنا:
القدس… لا السياحة،
الإنفاق… لا الاستهلاك،
الرجولة… لا التمثيل.

يا قارئ هذه السطور، إن لم يوقظك دم الشهيد، فماذا يُوقظك؟
وإن لم يبكِك عويل الأطفال،
فأي قلب في صدرك؟
وإن لم تتحرك الآن،
فمتى؟ متى؟ متى؟

هذا المقال، لا أكتبه لأُعجب به،
ولا لأُشارَك به، بل لأُشهد الله أني قلت كلمتي، وأن هذا آخر مداد قلمي، فإن قُبضت روحي بعده،
فيا رب، اجعله لي حجة لا عليّ.

حبيبتي غزة…
إنكِ على الجرح أحب،
وإنكِ آخر رمق في ضمير أمة،
وإنكِ، برغم الموت والركام،
أطهر من كل العواصم،
وأكرم من كل خُطب الزيف،
وأقرب إلى الله من أقصى ما نحلم به.

يا غزة…
إن خذلناك، فلا تعتبِي، فالعِتاب لا يُصلح مَن مات قلبه، لكننا نكتب…
علّ الله يبعث من بعد هذا المقال،
جيلاً لا يعرف الخذلان.

هل تأذن لي الآن، يا قلمي، أن تسكن؟ فقد قلتُ كل ما في القلب…
وما بقي إلا أن ألقى الله على هذه الحروف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top