|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

لم يكن بين غزة والأندلس جغرافيا مشتركة، ولا بحر واحد، ولا حتى لهجة واحدة، لكنّ بينهما رابطًا لا يُرى… رابطًا نسجته الذاكرة، وخاطته العبرات، ووشمته السنن التي لا تتبدل: إن تسقط الأمةُ في غفلتها، تتقدّم الجيوش، ثم تتأخر الضمائر… وإن تستيقظ الأمةُ على قدسية رسالتها، ترتبك الجيوش، ويتقدّم الشهداء.
في الأندلس، كانت المآذن تلامس السحاب، والعلم يملأ المجامع، والموشحات تملأ الساحات، حتى خُيّل لمن عاصرها أنها الجنة فوق الأرض. لكن ما بين الأمس واللحظة، وبين الحلم والانهيار، كانت هناك خيانة صامتة، وسُباتٌ طويل، وزيفٌ أقنع الناس بأن الجمال سيحميهم من السقوط. ثم فجأة، انطفأت الأندلس، لا لأنها فقيرة، بل لأنها شاخت في روحها، فاختارها التاريخ لتكون العبرة. أما غزة… فهي النقيض الكامل. فقيرةٌ في كل شيء إلا المعنى. محاصرةٌ بكل اللغات، إلا لغة الله. لا موشحات، بل صفارات إنذار. لا قلاع من طين، بل من يقين. لكنها وقفت، ورفعت رأسها في زمنٍ طأطأت فيه كثير من العواصم أعناقها.
غزة لم تكتفِ أن تكون مدينة تقاوم… بل أرادت أن تكتب درسًا لا يكرره التاريخ: “لن نكون أندلسًا أخرى، ولو اجتمع أهل الأرض.” كان يمكن لغزة أن تصمت، أن تستسلم، أن تقايض بقاءها ببعض الهُدن أو ببعض الطعام، لكنها أغلقت دفتر المقايضات، وفتحت سفر الشهداء.
قال ابن خلدون: “الملك إذا شاخ، ضعف سلطانه وذهبت هيبته.”
وغزة قالت للعالم: “لكن الإيمان إذا شاخ… شبّ من جديد.” قال ابن العربي الأندلسي: “كنّا في الأندلس ننام على الشعر ونصحو على الاغتراب.” أما غزة، فباتت تنام على صواريخ، وتصحو على تكبيرات.
في الأندلس، بكى الناس حين سقطت غرناطة… أما في غزة، فبكى العدو حين لم تسقط! نعم، نحن لا نبكي غزة… نحن نبكي على أنفسنا حين ننظر إلى غزة فنعلم كم خذلناها، وكم نحن مقصّرون أمامها.
في الأندلس، ضاعت الأرض وبقي الشعر… وفي غزة، تُقصف الأرض، ويُكتب الشعر من دماء أطفالها.
حين سقطت الأندلس، سقطت بعدها عواصم كثيرة، ليس لأن العدو كان أقوى، بل لأننا كنا أضعف من أن نتعلم الدرس. أما غزة، فليست مجرد مقاومة، بل هي معركة ضمير معلّقة في أعناقنا: هل نقف مع الحق مهما كلفنا؟ أم نؤجّل القضية حتى نرتاح من تأنيب الضمير؟
غزة… مدينة اختارت أن تعيش مشتعلة بالحق، على أن تنام في سلامٍ مزيف. هي الصفحة التي يفتحها الله لنا في كل عدوان، ليقول: “ها هي ذي صورة الأندلس، فماذا أنتم فاعلون؟” في الأندلس، خان الأمراء الشعوب… وفي غزة، الشعب صار هو الأمير، وهو السيف، وهو الترس. جاءها أهل الأرض جميعًا ليقايضوها، فكان ردّها: “لا نقبل أرضًا دون كرامة، ولا سلامًا دون عدل، ولا حياةً دون قدس.”
غزة…
الطفلة التي فقدت أمها، فصارت هي الأم لأمّتها. العجوز التي تمشي بين الركام، وهي تُسمع العالم كله دعاءً يهزّ العروش. الشهيد الذي يزفّه جيرانه قبل أن تلامسه الأرض.
المعلّمة التي أغلقت مدرستها بسبب القصف، ففتحت قلبها لتُعلّم التاريخ معنى الصمود.
هل تعرف ما الذي جعل غزة لا تسقط؟ أنها لم تكن مدينةً على خريطة، بل رسالةً على جبين الأمة.
لأنها اختارت أن لا تلبس ثوب الضحية، بل درع البطولة. لأنها رفضت أن تكون خبزًا على موائد المفاوضات.
وإذا كانت الأندلس قد صرخت في لحظة الغروب: “لقد خذلتموني!”
فإن غزة تصرخ في وجهنا كل صباح: “هل ستخذلونني كما فعلتم هناك؟”
غزة ليست ملحمةً في كتاب، بل كتابٌ مفتوح نكتبه بأفعالنا كل يوم.
وهي الآن تكتب سؤالاً للعالم:
“هل أنتم مستعدون أن تكونوا جزءًا من النور… أم ستختارون الظل مرةً أخرى؟” لا، لم تكن الأندلس مأساة، بل كانت مرآة. ولا ينبغي لغزة أن تكون المرآة الأخرى.
في التاريخ، هناك لحظات تلد أممًا، وأخرى تدفنها. غزة اختارت أن تلد أمة من تحت الركام، من تحت الألم، من بين ضلوع الأيتام. هي لا تبحث عن استعطاف، بل عن انتفاضة ضمير. لا تطلب أن نرثيها، بل أن نرتقي إليها. وإن كنّا قد كتبنا آلاف القصائد عن الأندلس بعد سقوطها،
فلنكتب اليوم ألف موقف لغزة… قبل أن نكتفي برثائها.
فالأندلس قالت لنا: “لا تُفرّطوا بالحق حين تكونون في أوجه انتصاراتكم…”
وغزة تقول:“لا تتركوا الحق، ولو كنتم وحدكم في المعركة.” غزة… لم تكن أندلسًا تسقط، بل أندلسًا تقاتل كي لا تسقط من جديد. فهل نُحسن الإصغاء قبل أن يختطف منا التاريخ فرصة الخلود؟