|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

لم يكن المساء عاديًّا، ولا كانت المدينة تعرف أن قادم الليل سيحمل معها قصة تُروى للأجيال وكأنها من نسج أساطير الحقيقة. كانت الأضواء في قلب الساحة الكبرى تعكس ظلالًا متراقصة، فيما همسات الرياح تمر على وجوه العابرين لتوقظ فيهم شيئًا دفينًا، كأنها تذكّرهم بأن التاريخ لا يُكتب بالحبر فقط، بل بالنبض والعزم، وبأرواح قررت أن تتجاوز حدود المألوف.
في ذلك الركن من الحياة، اجتمع رجال ونساء لا يجمعهم نسب ولا يربطهم مال، بل وحدهم هدف، وألّف بينهم حلم أكبر من مقاعد المؤتمرات وأضيق من ممرات المكاتب. لم يكن اللقاء تخطيطًا لمشروع عابر، ولا مشهدًا بروتوكوليًّا يلتقط فيه الجميع الصور. كان حوارًا بين الضمير والفعل، بين المبدأ والطريق، بين ما ينبغي أن يكون وما سيُنتزع من براثن المستحيل.
تحدث كبيرهم بصوت يشبه حفيف الأشجار في ليلة مطرية: “التاريخ ليس ما جرى فقط، بل ما لم يجرِ بعد، وما نصرّ على أن نجعله يجري. نحن لا نُساق، بل نقود، ولا ننتظر الريح، بل نصنع أشرعتنا.”
أدرك الحاضرون أن هذه الكلمات لم تكن تحفيزًا عابرًا، بل كانت وعدًا على بياض، توقيعًا بلا حبر، لكنه محفور في الصدور. هنا ولدت الفكرة: أن يكتبوا فصلًا جديدًا للتاريخ، لا بالنصر وحده، ولا بالدمع وحده، بل بمزيج متوازن من التضحية والرؤية، من التخطيط والحلم
بدأت الخطوات الأولى ببطء، كما يبدأ النهر من جدول صغير. لم يكن لديهم كل ما يطلبه المحللون: لا ميزانية ضخمة، ولا جيوش من الموظفين، ولا حتى ضمان بأن المسار سيكون ممهدًا. لكنهم امتلكوا ما يعجز الذهب عن شرائه: الإرادة. كان أحدهم يقول دائمًا:“إذا سقطنا، نسقط إلى الأمام.” فصار هذا الشعار سرًا يتناقله الفريق. وكلما تعثرت الأقدام، تذكروا أن سقوطهم نحو الأمام يعني أنهم أقرب إلى الهدف.
أما الليل، فكان حليفهم الأوفى. كانوا يجتمعون تحت مصابيح خافتة، يرسمون الخطط على أوراق يدوية، ويناقشون المخاطر كأنهم يضعون حجارة على جدار عتيق ليعيدوا بناءه. لم يكن بين الجالسين من يطلب صدارة المشهد أو موطئًا خاصًا في كتاب الإنجازات. كانت الغاية أكبر من الأسماء، وأوسع من الألقاب. وذات ليلة، حينما بدا التعب كأنه سيلتهم عزيمتهم، قال أحد الحكماء بينهم: “اعلموا أن التاريخ لا يرحم من تردد، لكنه يُخلّد من مضى ولو كان الطريق كله أشواكًا. كأن هذه الكلمات أشعلت النار في قلوبهم من جديد. فعادوا إلى العمل بجدٍّ مضاعف، وكأنهم أدركوا أن الطريق ليس تحديًا للنجاح فحسب، بل اختبارًا لصدق النية.
ثم جاء يوم الحسم. كانت المدينة تفتح عينيها على فجر جديد، والفريق يضع آخر لمساته على ما صار الآن مشروعًا متكاملًا، تحفة من التخطيط والتنفيذ. لم يكن إنجازهم جسرًا من حجر، ولا ناطحة سحاب، ولا حتى معركة عسكرية. كان شيئًا أعمق: نموذجًا لما يمكن أن تفعله العقول إذا اجتمعت القلوب. وعندما وقفوا على منصة الإعلان، لم يكن التصفيق وحده ما يملأ القاعة، بل ذلك الإحساس النادر بأن الحاضرين يشهدون ميلاد لحظة لن تتكرر. لحظة ستظل تُروى كما هي، بلا حاجة إلى تجميل أو زيادة. لقد أدركوا حينها أن ما أنجزوه ليس مجرد نجاح مؤسسي أو خطوة عملية، بل هو فتحٌ معنوي، يقيم الدليل على أن البشر يمكن أن يتحدوا الزمن، لا لينتظروا ما سيكتب عنهم، بل ليكتبوه هم بأيديهم.
بعد مرور أعوام، حينما بدأ الغبار يغطي الوثائق والصور، بقيت الحكاية حيّة في صدور من شاركوا فيها، وفي ذاكرة من سمعوا بها. لم يعد يهم كم كان عدد الحاضرين أو حجم الموارد، بل بقي الأثر هو الحكم.ذلك الأثر الذي جعل الصغير يحلم بالكبير، وجعل العابر يقرر أن يتوقف ويتأمل، وجعل من كانوا مجرد أشخاص عاديين يتحولون إلى شهود على فصل لم يشهده التاريخ من قبل.
قال أحد المؤرخين الذين درسوا القصة فيما بعد:“هذا العمل لم يكن مجرد إنجاز. كان إعلانًا أن التاريخ ليس ساحة للأقوياء فقط، بل أيضًا لأولئك الذين يملكون الشجاعة أن يبدأوا، حتى لو لم يملكوا شيئًا غير الإيمان.” وهكذا، بقيت الحكاية شاهدة على أن اللحظات العظيمة لا تحتاج دائمًا إلى جيوش أو قلاع، بل إلى قلوب تعرف أين تتجه، وعقول تعرف كيف تُكمل الطريق. فالتاريخ، في نهاية الأمر، ليس ما مرّ علينا، بل ما تركناه وراءنا، يضيء للآتين كما أضاء لنا من سبقونا. وما فعله هؤلاء، كان ضوءًا لن ينطفئ