| 
                          Getting your Trinity Audio player ready...
                       | 

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

هناك لحظات، لا يلتفت إليها كثير من البشر، لكنها تُسجَّل في السجلات الخفية التي لا يقرأها إلا من طهرت بصيرته قبل بصره. لحظات تشبه قطرات الندى حين تتسلل على أوراق الشجر قبيل الفجر، لا يسمع وقعها أحد، لكن الأرض كلها تنتعش بها.هكذا كان ذلك اليوم الذي لم يشهده التاريخ بعد، لكنه يستعد لكتابته بقلم من نور، لا يُمسك به إلا الصادقون.
كانت المدينة العتيقة تغتسل بضوء الفجر، وأزقتها تنفض عن نفسها تعب الأمس. المآذن تشق صمت السماء بنداءات الأذان، كأنها تخاطب الأرواح قبل الأجساد: “حيّ على الصلاة… حيّ على الفلاح”. وفي قلب المدينة، حيث تتعانق الحجارة العتيقة مع القصص التي لم تروَ، وقف رجل مسافر، لا يحمل سوى حقيبة صغيرة وذاكرة مليئة بأحلام لم تكتمل.
لم يأتِ سائحًا يبحث عن صور لعرضها في صفحات التواصل، ولا تاجرًا يفاوض على صفقة، بل جاء يبحث عن شيء لم يعد كثيرون يبحثون عنه: لحظة تلتقي فيها الأرض بالسماء. اتجه بخطوات وئيدة نحو مسجد تفيض منه رائحة القرون الماضية، رائحة السجود الذي بكى فيه الفاتح يوم دخل المدينة، ورائحة الدعاء الذي همس به الأولياء في جوف الليل.
عند عتبة المسجد، توقفت قدماه، كأنما هناك حاجز غير مرئي يستأذن قلبه قبل أن يدخله. مدّ يده ولمس الحجر البارد، فإذا به يشعر بدفء غريب، دفء يشبه العناق بعد طول غياب. دخل المسجد بخطوات تشبه خشوع الأطفال حين يقتربون من أمهاتهم بعد خطأ صغير، جلس في ركن قصيّ، وأطلق لدموعه العنان. لم يكن يعرف لماذا يبكي، لكن قلبه كان يقرأ فصولًا لم تُكتب في كتب البشر.
في تلك اللحظة، شعر أن التاريخ ليس مجرد أحداث مرت، بل هو كائن حي، يجلس إلى جواره، يستمع، ويبتسم بحزن. قال التاريخ بصوت لا يسمعه إلا قلبه: “يا ابن اليوم، لقد شهدت الفاتحين، وشهدت الغزاة، شهدت من عمروا الأرض ومن دمروها، لكن قلّما شهدت قلبًا يأتي إليّ ليمسح عني الغبار. تعال، فإني أحتاجك كما تحتاجني.”
جلس الرجل طويلًا، يصغي لذلك الحوار الذي لا تُسمع كلماته، لكنه يُحس بكل خلية من خلاياه. أدرك أن الأوطان لا تُفتح بالسيوف وحدها، وأن العزة لا تُبنى بالمباني الشاهقة، بل بالأرواح التي تعرف كيف تسجد، وبالقلوب التي لا تبيع مبادئها ولو جاعت. ثم تذكر أن في هذا العالم مؤسسات وأشخاصًا يبحثون عن أرقام وإنجازات سريعة، متناسين أن أجمل إنجاز هو ما يترك أثرًا في الأرواح، لا ما يُرفع في تقارير آخر العام. تذكر أن هناك أمة تحمل ميراث الأنبياء، لكنها أحيانًا تنسى أن رسالتها لا تُقاس بحجم صادراتها، بل بعمق إنسانيتها.
عندما غادر المسجد، لم يحمل معه سوى يقين واحد: أن ما يصنعه القلب الصادق في لحظة إخلاص، قد يغير مسار أمة بأكملها. سار في الأزقة من جديد، لكن عينيه لم تعودا كما كانتا قبل الدخول، فقد صارتا ترى الألوان أعمق، وتسمع الأصوات أنقى، وتشعر أن كل ما حوله يردد معه: “إذا أردت أن تصنع تاريخًا لم يشهده التاريخ، فابدأ بإصلاح قلبك.”
في الميناء، كان البحر ساكنًا إلا من تموجات صغيرة تعكس ضوء الصباح، وكأنه مرآة كبرى للأفق. جلس على حافة الرصيف، وأخرج دفتراً قديماً، كتب فيه بخط بطيء، وكأنه ينقش على ألواح حجرية:“ليس المجد أن تكتب اسمك في صدر كتاب التاريخ، بل أن تكتبه على جدران القلوب. وليس النصر أن ترفع راية فوق حصن، بل أن ترفع إنسانًا من قاع اليأس إلى ذروة الأمل. إن التاريخ الحقيقي هو ما تصنعه حين لا يراك أحد، وما تحفظه السماء قبل الأرض.”
أغلق الدفتر، وأدرك أن رحلته الحقيقية لم تبدأ بعد، وأنه لا يسعى لذكره بين العظماء بقدر ما يسعى لأن يرضى عنه رب العظماء.
ابتسم للبحر، ونهض، وكأن خطاه تسير على طريق لا ينتهي، طريق يصنع فيه مجدًا جديدًا، لا تصفه كتب المؤرخين، بل تكتبه ملائكة الرحمة في سجل لا يمحوه الزمان.
وهكذا، عاد إلى حياته، لكنه لم يعد كما كان. صار يرى كل يوم فرصة جديدة لصنع تاريخ لم يشهده التاريخ بعد، تاريخ تُشيّده الكلمة الصادقة، والنوايا النقية، والعمل الذي يبتغي وجه الله وحده
