مناظرة بين رأس المال المادي ورأس المال الفكري

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

لم تكن قاعة عادية تلك التي امتلأت مساء ذلك اليوم. لم تكن في نيويورك، ولا في دبي، ولا حتى في وادي السيليكون…
بل كانت قاعة خيالية، تتكوّن من أعمدة من نور، وسقف من أفكار، وأرضية مفروشة بأرقام منقوشة بالذهب والرمز.
جلس الجمهور… مدراء تنفيذيون، ومفكرون، ورواد أعمال، ومخترعون، وأيتام حضارات. جميعهم جاءوا ليشهدوا المناظرة التي لم يشهدها التاريخ.

وقف على المنصة رجل من صلب ونحاس، جسده متين كرافعة ميناء، صوته عميق كنفير مصنع…قال بثقة الحديد: “أنا رأس المال المادي، من شيد المدن، وأدار المصانع، وشيّد الأبراج، وأدار الثروات بالأصول، أنا صاحب الوزن الحقيقي في دفاتر الميزانية… فإذا اختفيت، انهارت الإمبراطوريات، هل رأيتم يومًا شركة تُبنى بالفكرة فقط؟ من دون أرض أو آلات أو مخازن؟”

لم يكد يُنهي كلماته، حتى تقدّم من الخلف رجل آخر، خفيف الخطوة، حاد النظرة، يحمل في جيبه كتابًا وفي يده قلمًا، وفي عقله تاريخًا. قال بصوت هادئ، ولكن عميق كالمعرفة حين تستيقظ: “وأنا رأس المال الفكري… لم أبنِ المدن، لكني أوحيت لمن بناها أين يضع لبنتها الأولى، لم أدرِ المصانع، لكني أنا من صممّها، أنا من كتب برمجياتها، واخترع آلتها، وحدد مسارات سلاسل الإمداد فيها، لم أحمل الصلب، لكني جعلت الصلب ذكيًا.”

ضحك الجمهور بين منبهر ومندهش، فسأل أحدهم: “ومن أنتما؟ وهل تُدار المؤسسات بكليكما؟ أم بأحدكما دون الآخر؟” أجاب الماديّ مغتبطًا: “أنا ظاهر، مُقاس، ملموس. في الميزانية تحت بند الأصول. لي عمر افتراضي، وتُحسب إهلاكاتي سنويًا.”
“أنتم تعرفونني في المباني، في الآلات، في السيارات، في الأرض.”

لكن الفكري قاطعه بهدوء فيه ثقة القرون: “وأنا في عقول موظفيك، في نظمك، في علاقاتك بالعملاء، في ثقافتك التنظيمية، في أسرار الابتكار لديك، أنا لا أُهلك. بل أنمو كلما استُخدمت… أُضيء حين يطفأ كل شيء، عندما تُقصف الأبراج، يُنهب المخزون، تُسحب التراخيص… لا يبقى إلا أنا، أنا من خرج من الرماد وبنى غوغل، أنا من كتب قصة ستيف جوبز، أنا من جعل أمازون تبيع الهواء وتربح” ثم استدار نحو الحاضرين وسألهم: “هل تعلمون أن مايكروسوفت تُقدَّر قيمتها السوقية بتريليوني دولار، وأصولها المادية لا تشكل 10% من ذلك؟ فأين إذًا تسكن القيمة؟ في الإسمنت؟ أم في الخوارزمية؟”

ساد الصمت. أراد المادي أن يرد، فقال مرتبكًا: “لكن لا يمكن بناء شركة من دون أساس مادي… من دون آلة، من دون مصنع.” فأجابه الفكري: “ومن قال إني ضدك؟ أنا لا أنفيك، بل أتفوّق عليك في التأثير والاستدامة. أنت تنتهي بانتهاء الأصل… وأنا أبدأ حيث يتوقف كل شيء.” أنظر إلى الذكاء الاصطناعي اليوم، إلى تسلا، إلى هواوي… من أين جاء كل هذا؟ من منجم؟ من نفط؟ لا يا صاحبي… من العقل.” ثم رفع يده وختم قائلاً: “في العصور الماضية، كانت الحضارات تُقاس بعدد جنودها ومخازنها. أما اليوم، فتُقاس بعدد عقولها المتقدة، ونوعية أفكارها، وعمق نظمها.” “من يملك الأرض، قد يملك حدودًا.
ومن يملك المعرفة، يملك المستقبل.”

وهكذا انتهت المناظرة… لا بانتصار طرف على آخر، بل بانكشاف الحقيقة الأوضح من ضوء النهار: أن رأس المال الحقيقي لم يعد يُقاس بالمتر والكيلو والطن، بل بالفكرة التي تهزّ السوق، وتفتح باب المستقبل، وتصنع من الهواء ثروة. في زمن الاقتصاد الصناعي، وُلد المادي ملكًا… وفي زمن اقتصاد المعرفة، أشرق الفكري نبيًّا، يقود الممالك من خلف الستار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top