كيف يصنع القلب القائد الحقيقي في زمن الأزمات

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في زمن تتقاذفه أمواج التحديات، وتتلاحق فيه الضغوط على أكتاف القادة والمؤسسات، يبرز من بين صخب الأرقام والإحصائيات صوتٌ هادئ ينبع من عمق القلب. صوت القيادة التي لا تُقاس بالقوة فقط، بل بالرحمة التي تمنحها، والصبر الذي تصنعه، والكرامة التي تحفظها لكل من تحت قيادتها.

القيادة ليست مجرد منصب يُشغل أو سلطة تُمارس، بل هي رسالة سامية وإنسانية بامتياز، تتطلب من صاحبها أن يكون أكثر من مدير، بل أبًا روحيًا، صديقًا حانيًا، ونبراسًا يهتدي به الجميع في ظلمات المحن. في هذه الرحلة التي نسير فيها معًا، سنغوص في عالم القيادة الرشيدة، تلك التي تحتضن الإنسان قبل أن تحكم على النتائج، وتحتفي بالصبر قبل أن تطلب الإنجاز، وتُقدّر الكرامة قبل أن تفرض النظام. من خلال موقف إنساني مؤثر داخل إحدى المؤسسات الرائدة، سنرى كيف تزرع القيادة الرحيمة بذور الوفاء والإبداع، وتحصد ثمار النجاح الحقيقي، الذي لا يُقاس بالأرقام فقط، بل بالمحبة والاحترام والتلاحم.

لحظة إنسانية تصنع القائد

قبل عدة أعوام، في مؤسسة خيرية ذات مكانة رفيعة، واجه أحد الموظفين أزمة صعبة. كانت حياته الشخصية متعبة؛ والدته مريضة، وضغوط الحياة تنهك روحه. في لحظة ضعف، تأخر في تسليم مشروع مهم، مما أثار استياء الإدارة. كان من السهل أن يُتخذ قرار بإجراءات عقابية صارمة، لكنه كان هناك قائد مختلف، استدعى المدير الموظف، لكنه لم يبدأ الحديث عن المشروع أو الخطأ. بل سأل عن حال والدته، عن تفاصيل حياته، عن ألمه وهمومه. نظراته لم تكن مجرد استفسار إداري، بل اهتمام صادق ينبع من قلب يرعى ويراقب.

هذا الحوار الصادق، سمح للموظف بأن يبوح بما في داخله، أن يشعر أنه ليس مجرد رقم أو موظف، بل إنسان يُحترم ويُقدر. ومن هنا، بدأ مسار جديد؛ إجازة قصيرة، توزيع مهام مؤقت، دعم معنوي، وتحفيز مستمر. وبعد فترة، عاد ذلك الموظف بحماس جديد، وأتم المشروع بأفضل صورة، وحملت قيادته الإنسانية رسالة واضحة: القيادة لا تُبنى بالقسوة، بل بالرحمة.

القائد الرشيد: أب على العرش

القيادة الحقيقية هي إدارة النفوس قبل إدارة الموارد. يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا.” في سياق القيادة، يجب أن يكون القائد يقظًا لحالة من يقودهم، يفهم معاناتهم، ويصبر على أخطائهم، ويحتضنهم رغم العثرات. ليس القوي هو من يسحق من حوله لتحقيق أهدافه، بل من يملك نفسه، ويحتوي ضعف الآخرين، كما قال النبي محمد ﷺ: “ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.”
القيادة الرحيمة لا تتخلى عن إنسانية القائد. إنها توازن بين الحزم والرحمة، بين تحقيق النتائج والحفاظ على كرامة الأفراد. إنها استثمار في العلاقات الإنسانية التي تشكل الوقود الحقيقي للنجاح.

دروس من التاريخ والحكمة

إنسانيّة القيادة لم تكن حديث العصر، بل هي أساسها عبر العصور. يقول مانديلا: “القائد الجيد هو راعٍ؛ يبقى خلف القطيع، ويجعل الآخرين يظنون أنهم في المقدمة.” وأيضًا، يستذكر التاريخ كيف كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه شديدًا مع العدل، لكنه رحيمًا مع الناس. قال: “لو عثرت بغلة في العراق، لسألني الله عنها: لمَ لمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟” هذه المسؤولية الإنسانية هي جوهر القيادة.

وفي كتاب “الأمير” لنيكولو مكيافيلي، على الرغم من فلسفته الواقعية، إلا أنه يشير إلى أن القائد الذي يُحب الناس ويحترمهم، يكون لديه قوة لا تضاهى.

لماذا تصنع الرحمة فارقًا في القيادة؟

القيادة التي تبني على الرحمة تزرع الثقة والولاء، وهما رأس مال لا يُشترى. تجعل بيئة العمل مجتمعًا متكاملًا، حيث يشعر الجميع بأنهم جزء من قصة أكبر، لا مجرد أرقام وأدوار. هذه القيادة تُحفز الإبداع والابتكار، فالموظف الذي يشعر بالاهتمام والاحترام، يبذل ما في وسعه من جهد، وينمو مع مؤسسته كما ينمو الإنسان مع بيئته.

خاتمة القلب والعقل

القيادة ليست مجرد رسم خطط أو إصدار أوامر، بل هي فن وحكمة، بل هي أبوة على مستوى مؤسسة، وطن، أو شعب، إن القائد الحقيقي يمسك بيد من يقودهم، يخفف عنهم، يحميهم، ويزرع فيهم الأمل حتى في أحلك الظروف. إننا نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى قادة لا يُقاسون بالسلطة فقط، بل بالإنسانية، ورقة القلب، وصدق النية.
فلتكن قيادتك قلبًا كبيرًا، وعقلًا واعيًا، وذراعًا حانية، لأن المؤسسات العظيمة تُبنى على الأرقام، لكنها تُخلّد بالقلوب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top