|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

“النُبل المتبادل بين الكلمة والرد”
لم تكن الكلمة يومًا نهاية، ولا كان المقال فصلًا أخيرًا. الكلمة الحقّة، تلك التي تخرج من قلب تجرّد، لا تذهب إلى سكونٍ على ورق، بل تذهب إلى قلب آخر يُحسن استقبالها، فيولد منها أثر، ويتشكّل في رحابها ردّ… لا يقلّ نورًا عمّا سبقها.
هكذا كان اللقاء بين مقالٍ كُتب بصدق، وتعقيبٍ كُتب بوفاء. لم يكن تعليقًا تقليديًا، ولا ردًا عابرًا، بل كان حوارًا نادرًا بين روحين: كاتب فتح الباب بحرف، وقارئ دخل بضياء.
سأل القارئ:
تبقى…
كيف تكتب؟
وأين تكتب؟
ومتى تكتب؟
من يكتب؟
ولماذا يكتب؟
بأي خط يُكتب؟
وبأي لون يُكتب؟
ليست هذه أسئلة، بل تأملات من معدن نادر، لا تُصاغ من فراغ، بل تُستخرج من أعماق قارئٍ ذاق الحياة، وسار في دروبها، وسأل الحرف كما يُسأل الحكيم.وهنا، كان لا بد للكاتب أن يتجرّد، وأن لا يرد بإجابات مدرسية، بل بإضاءات متواضعة تنحني أمام عمق السؤال.
كتب إليه:
تُكتب الكلمة حين يرتجف الإصبع قبل أن يمس الورق، وحين يتقدّم الصمت على الضجيج، وحين يتساوى القلب والعقل في وزن المعنى. تُكتب حيث لا يراها أحد، إلا الله، في خلاءٍ يشهد على النوايا.
تُكتب حين يُخشى أن يُسرق الضوء من الذين أضاءوا، وأن يُنسى من مشى وحده في العتمة. ويكتبها من عرف أن الإنصاف ليس ترفًا بل فرض، وأن الصمت ليس دائمًا طهرًا، وأن الحضور ليس بالضرورة صوتًا.
لم يكتب ردًا، بل كتب وصية للكُتّاب، ودستورًا خفيًا للمنصفين، وعهداً بين كل قلمٍ ومَن مرّ من أمامه ثم رحل دون أن يُذكر.
وحين عاد القارئ ليردّ، لم يردّ بكلمات شكر، بل وقف على عتبة الصدق، وقال: “اقشعرّ بدني قبل أن تُتم الرد… لم يكن حديثك إجابات بل إضاءات، أو قل: نصائح من خبر وسبر وتجرد… وكان ردك مقالًا، بل توثيقًا لتفاعلٍ يختلط فيه وجع التجربة بفرح الصدق.”
يا الله، ما أندر هذا النوع من الردود… الرد الذي لا يُسائل، بل يحتضن، ولا يُفسر، بل يبارك، ولا يُنافس، بل يُكمل. في زمن تسوده السرعة، والتفاعل اللحظي، والتصفيق الأجوف، يقف هذان الصوتان: الكاتب والقارئ، ليكتبا معًا ما لم يكتبه التاريخ من قبل: أن أعظم المقالات ليست ما يُنشر، بل ما يُفهم.وأن أعمق الكتابات ليست ما يُكتب، بل ما يُقرأ بعين القلب. وأن القارئ الحقيقي ليس تابعًا للكاتب، بل ندّ كريم، يُعيد صياغة النصّ بنبله، فيمنحه حياة ثانية لم يدرِ الكاتب أنها كانت ممكنة.
في هذا التفاعل، ارتقى النص إلى مقام جديد:
• ليس مجرد “مقال”،
• وليس “تعليقًا”،
• بل أدبٌ قائم على الاحترام، وكتابة مشتركة بين كاتب يضع البذرة، وقارئ يسقيها بتأمله.
هذا النص لم يُكتب لأن فيه كلمات بليغة فقط، بل لأنه حمل سرًّا: أن الكلمة إذا خرجت من القلب وصلت، وإذا صيغت بنيّة الحق، سُمع لها ولو من بين الضجيج. وهكذا تُصنع الكتابات التي لا ينساها الناس…
ليست التي حصدت آلاف الإعجابات،
ولا التي انتشرت في كل مكان،
بل التي وقفت على شفير الصدق، فأنصت لها من يعرف الفرق بين الحرف المجامل… والحرف المُجَمّل بالحق.
ختامًا، لو أرّخ التاريخ للكتابة النبيلة، لوضع هذا الموقف مثالًا: كاتبٌ صدق، وقارئٌ أنصف، ومقالٌ لم يكتبه قلم واحد… بل كتبته الأرواح حين التقت على ضوء الفكرة، وعدالة الكلمة. فطوبى لكل من يكتب لا ليُدهش، بل ليُنصف، وطوبى لكل من يقرأ لا ليُصفق، بل ليُكمل الرسالة بما يليق بها من وفاء. فالكتابة الحقة لا تُقاس بعدد قرائها، بل بعدد القلوب التي تعاهدت معها على النُبل.