|
Getting your Trinity Audio player ready...
|
لم يكن في حسبان جنرالات الأرض ولا في حسابات غرف العمليات المليئة بالشاشات، أن رقعة جغرافية صغيرة كغزة، لا تتجاوز مساحتها ٣٦٥ كيلومترًا مربعًا، ستتحول إلى مسرح ملحمة كونية، يدوّنها التاريخ لا كحرب عابرة، بل كإعادة تعريف لمفهوم القوة، وانقلاب على كل معايير الانتصار والهزيمة.
الخبراء العسكريون وقفوا حائرين، وكلماتهم خرجت كما لو أنها شهادات أمام محكمة الإنسانية. قال خبير بريطاني بنبرة المندهش: “هناك قوة خفية في غزة، لا يمكن تفسير استمرار القتال بمجرد مجموعة مقاتلين محدودي العدد والعدة.” بينما اعترف خبير أمريكي في لحظة صدق نادرة: “لقد زودنا إسرائيل بما يكفي لإبادة عشرات المرات ما يعادل غزة، بما يكفي لإحراق أرض بأكملها كما تفعل ست قنابل نووية، ومع ذلك، ها هم المقاتلون يخرجون من تحت الركام، كأن الأرض تنجبهم.” أي سر هذا الذي يجعل الأعين العاجزة تراقب السماء المزدحمة بطائرات التجسس من أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإسرائيل، فيما المقاوم ينساب في أزقة المخيمات كظلٍّ لا يُمسك به، يقترب من الدبابة بثبات، يزرع عبوة ناسفة ثم يختفي كما يختفي النسيم، لتنفجر الآلة الحديدية صريعة الإيمان؟
إنها معجزة تتكرر كل يوم، لكنها ليست معجزة تُكسر قوانين الطبيعة، بل معجزة تصنعها العقيدة التي تستند إلى الله. هنا تتوقف العقول المادية، وتبدأ الأرواح في استيعاب المعنى: أن القوة ليست في الحديد والنار، بل في القلوب التي أشرقت باليقين. غزة.. تلك المدينة الساحلية التي أرادوا لها أن تكون مجرد “هامش”، فإذا بها تتحول إلى مركز العالم. آلاف الصواريخ والقنابل سقطت عليها، آلاف الطائرات حلقت فوقها، عشرات الآلاف من القذائف أطلقت من البحر والبر والجو. استخدمت إسرائيل كل ما في ترسانتها: الـF-15 والـF-35، الأباتشي، المدفعية الثقيلة، الصواريخ الموجهة، الطائرات المسيّرة، حتى السلاح الذي لم يجرّب من قبل. ومع ذلك، بعد كل هذا الجحيم، يخرج الأطفال من تحت الأنقاض ليحملوا صاروخًا لم ينفجر، يلعبون به وكأنهم يلعبون بكرة، في مشهد يختصر فلسفة الحياة في غزة: “الطفولة أقوى من الموت”.
لو وقع مثل هذا المشهد في مدينة أوروبية، لاستُدعيت قوات الهندسة والمتفجرات، وضُربت أطواق أمنية، وارتجف الكبار قبل الصغار. لكن في غزة، لا يخاف الطفل، لأنه يرى ما لا نراه، ويشعر بحماية غيبية تحرسه. أي عقل يفسر أن طفلاً يلاعب الموت بابتسامة، إلا إذا كانت السماء قد ألبسته ثوبًا من الطمأنينة؟ وهنا يطل السؤال الذي يتهرب منه العسكر: كيف لم تُحسم هذه الحرب بعد كل هذا السلاح؟ كيف لعشرات الآلاف من القذائف أن تسقط ولا تكسر إرادة؟ الجواب لا يأتي من التحليل العسكري وحده، بل من سرٍّ أعمق، من وعد رباني سبق الزمان: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾.إنهم يقاتلون بعقيدة، والعقيدة حين تتجذر في القلوب، تصنع رجالاً لا يُقاسون بالعدد. لقد رأينا المقاوم يقترب من الدبابة كأنه يسير إلى صلاة، يضع المتفجرات بهدوء، ينسحب بخطوات ثابتة، كأنما يثق أن العمر بيد الله لا بيد طائرة تحلق فوقه. لقد رأينا قناصًا واحدًا يشل حركة كتيبة كاملة، ورأينا كمينًا واحدًا يدمر عشرات الآليات. كيف يُفسر هذا؟ يجيبنا التاريخ: هكذا كانت بدر، هكذا كانت اليرموك، وهكذا يُعاد المشهد في غزة.
قال أحمد ياسين : “العدو يملك السلاح، ونحن نملك الإيمان، ومن يملك الإيمان يملك ما هو أعظم من كل السلاح.”، وقال الرنتيسي: “الشهادة حياة، ونحن لا نموت إلا مرة واحدة، فلماذا نخاف؟”، وكأن كلماتهما كانت وصايا مزروعة في قلوب الجيل الجديد، فخرج شباب غزة يقاتلون كما لو أن أرواح الشهداء ترفرف فوقهم، تمدهم بالطمأنينة والثبات.
ولعل المشهد الأكثر إيلامًا للعدو، أن كل شهيد في غزة يولد مكانه عشرة مقاومين، كل بيت يهدم يتحول إلى مدرسة صبر، كل طفل يُيتم يتحول إلى رجل سبق عمره بعقود. إنها معادلة عكسية لا يفهمها جيش احتلال يظن أن الهدم يطفئ الحياة، بينما هو في الحقيقة يزيدها اشتعالاً.
لقد ورطت إسرائيل نفسها في حرب ليست قادرة على إنهائها، لأن العدو يمكنه أن يدمر الحجر، لكنه لا يستطيع أن يهزم الروح. الروح لا تُقصف، الإيمان لا يُدمر، اليقين لا يُحاصر. لذلك قال بعض المحللين: ستحتاج إسرائيل إلى عقود لتعيد بناء جيشها نفسيًا ومعنويًا، لأن الهزيمة ليست في خسارة الدبابات، بل في انكسار الروح القتالية.
ولذلك فإن غزة اليوم ليست مجرد “قضية فلسطينية”، بل هي قضية كونية، درس للعالم أن الطغيان مهما تضخم فإنه ينهزم أمام الحق، وأن الدم قد يهزم الحديد، وأن الأمة التي تُضحّي تُولد من جديد. لقد قال رسول الله ﷺ: “فعليكم بالجهاد، وإن أفضل جهادكم الرباط، وإن أفضل رباطكم عسقلان.”، وغزة اليوم هي عسقلان العصر، رباط الأمة كلها، حيث يكتب الشهداء بدمائهم وصايا الخلود. غزة ليست وحدها، فهناك قلوب الملايين تخفق معها، ودموع الملايين تنزل لأجلها، ودعوات الملايين ترفع لسماء الليل. لكن غزة تقدمت الصفوف، وتحمّلت ما لم يتحمله غيرها، لتقول للأمة: هنا تصنع الكرامة، هنا يولد اليقين. إنها ليست حربًا عادية، إنها “ملحمة السماء على الأرض”، معجزة حية تُرينا أن الله حين يريد، يضع سر النصر في القلوب لا في الترسانات.
اليوم، يقف العالم مندهشًا، كما وقف من قبل أمام بدر، أمام أحد، أمام اليرموك، أمام حطين، أمام عين جالوت. واليوم يقف أمام غزة، كأنها تقول للعصر الحديث: “لا تنسوا أن الإيمان لا يموت.”
غزة اليوم قصيدة تُكتب بالدم واليقين، رواية تُسرد بلغة الأرواح، درس يُلقّن للأجيال أن المعجزات لم تنتهِ، وأن السماء ما زالت تتدخل حين يظن الطغاة أن الأرض ملك لهم. فيا غزة، يا عسقلان الزمان، يا مرابطة الأمة، لقد صنعتِ ما لم يشهده التاريخ: أن السلاح يعجز حين ينتصر الإيمان، وأن السماء تظل تحرس الأرض ما دام فيها من يقول: الله أكبر، فليست غزة وحدها من تُختبر في هذه اللحظة، بل كل قلب يقرأ عنها، وكل عين تدمع لها، وكل ضمير يواجه صدى السؤال: وماذا قدمت؟ فالمقال ليس نهاية المطاف بل بدايته، دعوة لأن يتحول الإعجاب إلى عمل، والتأثر إلى نصرة، والدمعة إلى دعاء، واليقين إلى موقف. إنها ساعة فاصلة، إما أن نكون شهودًا على ملحمة السماء مكتفين بالتصفيق، أو أن نكون جزءًا منها، نكتب في صحائفنا أننا لم نخذل غزة حين نادت، ولم نغفل عن عهد الله في زمن الامتحان. فغزة لا تطلب المستحيل، بل تطلب أن يكون كل قارئ جنديًّا في ميدانٍ يناسبه، بالكلمة، بالمال، بالدعاء، بالموقف… لتظل السماء تحرس الأرض، ويظل وعد الله حاضرًا.