|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

المقدمة
في تاريخ الإنسانية، تتوالى الشعارات والشعوب، لكن ثمة عبارات قليلة تُولد لتبقى خالدة، لا تمحوها الأيام ولا يغيّرها تبدّل الزمان. كلمات تصعد من قلبٍ صادق، لتسكن ضمير البشرية كلها. ومن هذه الجُمل التي تُشبه النبوءات: “الرفقاء أوطان”. إنها ليست مجرد عبارة قيلت على مائدة عابرة، بل تجلٍ لأعمق ما يحتاجه الإنسان: أن يجد وطنه في إنسان، وسكنه في رفيق، وأمانه في صحبةٍ تُشبه البيت. وهذه الأدبية المصغّرة ليس إلا محاولة لرسم ملامح هذه الجملة الخالدة، من خلال مشهدٍ واقعي، ثم شواهد التاريخ والرمز، وصولًا إلى خاتمة تُلخّص الخلود.
المقال
الرفقاء أوطان: حين يسكن القلب أرضًا لا حدود لها
في مساءات الجمعة التي يزهو بها القلب قبل أن يزهو بها المكان، تتزين المائدة بما لذ وطاب، غير أن الجمال الحقيقي لم يكن يومًا في صحاف الطعام، بل في الوجوه التي تجتمع حوله، في الأرواح التي تلتقي على حب الله، وفي الأحاديث التي تتناوب بين ذكرٍ ووفاءٍ، وبين دعابة رقيقة ورعشة وجد. عندها، يصبح المجلس أكبر من مكان، ويغدو الحاضرون أكثر من أشخاص، كأنهم أرض واسعة تتسع للروح. ذلك اليوم، وفي لحظة من اللحظات النادرة التي لا يصنعها التدبير البشري بل يرسلها القدر كرسائل من نور، جاء الحديث عن أم جهاد رحمها الله، بجوهانسبرغ، تلك السيدة التي جمعت الوفاء والكرامة، فكان رثاؤها حروفًا تقطر بالرحمة، وسطورًا تحفر في القلب قيمة الوفاء بعد الرحيل. وما إن أخذت الذكرى بقلوبنا إلى عالم الصدق، حتى تسابق الزمن ليواكب المشهد بلقطة أخرى: فيديو من الغالي “أبو مبارك الشامري ” وهو يطوف في البيت العتيق، يرفع يديه بدعاء رقراق قبل مغرب الجمعة. في تلك اللحظة، امتزجت الأرواح بين الأرض والسماء، بين المائدة التي جمعتنا بالكويت في ود، والكعبة التي جمعتنا في دعاء. وبينما نحن في حضرة تلك المعاني، انطلقت جملة من أحد الرفاق كأنها وحي: “الرفقاء أوطان”. جملة قصيرة، لكنها تسع تاريخ الإنسانية كله. جملة عابرة، لكنها رسخت فينا كقانون أزلي: أن الرفيق ليس مجرد صديق، بل هو وطن متنقل، تحمله حيثما رحلت، فتجد فيه الأمن الذي يغيب، والسكينة التي تبحث عنها في المدن، والدفء الذي قد تعجز البيوت عن منحه.
الرفيق وطن لا يزول
حين تغترب في أرض بعيدة، وتضيق بك الغربة كجدار صامت، يطل عليك الرفيق فيصير نافذة، بل يصير سماء كاملة. لذلك لم يكن عجيبًا أن يقول الإمام عليّ رضي الله عنه: الغريب من لم يكن له حبيب. وكأنّ الوطن في جوهره ليس أرضًا ولا حدودًا، بل قلبٌ يحتضنك، ولسانٌ يدعو لك، وكتفٌ تستند إليه. الرفقاء هم الذين يمدّون لك جسورًا من الألفة في وسط بحر الوحدة، يصنعون لك من لحظة لقاء بيتًا، ومن كلمة طيبة مدينة، ومن ذكرى خالدة وطنًا كاملاً.
أوطان القيم
ما الذي يجعلنا نشعر أن رفيقًا بعينه وطن؟ إنه الوفاء. الوفاء الذي يجعل اسمه يسبق غيابه، وحضوره يبقى بعد رحيله. وفي سيرة العظماء، نجد أن الوفاء للرفاق كان أوضح من أي شعار سياسي أو مصلحة دنيوية. يقول العقاد: الصديق هو الذي يدفعك إلى الأمام حين يتراجع الجميع. ويقول المتنبي:
إذا صَحِبْتَ في أيّامِ بُؤسٍ
فلا تَنسَ المَوَدَّةَ في الرّخاءِ
إنّ الوطن في أصله قيمة، فإذا فقدنا القيم في جغرافيا الأوطان، وجدناها في وجوه الأصدقاء.
من الحجارة إلى القلوب
كم من إنسان دُفن غريبًا في أرضٍ لم يعرفها؟ لكن قلب الرفيق كان وطنًا أوسع من أي جغرافيا. وكم من بشر عاشوا بين شعوبهم غرباء، لا يجدون مأوى إلا في صدور أصدقائهم؟ لذلك، لم يكن الوطن الحقيقي يومًا مساحة تُقاس بالكيلومترات، بل دفء يُقاس بصدق المشاعر. المسيري، في تأملاته، كان يردد: المعنى لا يولد من المكان بقدر ما يولد من الإنسان. وهنا تتجلى العبارة العظمى: الرفقاء أوطان.
لحظة الجمعة
المشهد الذي بدأ بمائدة، وامتد إلى رثاء، ثم إلى دعاء من مكة، وانتهى بجملة خالدة، كان درسًا في أن الحياة كلها خيوط تتشابك في لوحة واحدة. نحن لا نصنع الأوطان وحدنا، بل نصنعها حين نُعطي من قلوبنا مساحة للآخر، ونحمل في صدورنا وفاءً لا يزول. إن الجمعة التي جمعتنا حول الطعام لم تكن مجرد لقاء عابر، بل كانت شهادة أن الوطن في جوهره صحبة، وأن الصحبة الصادقة يمكن أن تحوّل أي لحظة إلى حياة، وأي مكان إلى دار، وأي كلمة إلى ميثاق.
الخلود في كلمة
حين يُكتب عن تلك الجملة “الرفقاء أوطان”، فلن تُكتب كحرفٍ عابر، بل كأعظم معادلة للإنسانية. أن نجد في بعضنا أرضًا، وفي بعضنا وطنًا، وفي بعضنا بيوتًا لا تنهدم. الوطن ليس دائمًا راية تُرفع، بل يد تُمسك بك، ودمعة صادقة تُرافقك، ودعاء يعلو باسمك في الحرم.
خاتمة المقال : قد نمضي إلى بقاع مختلفة، وقد تتبدل الأماكن وتتغير الأزمنة، لكن الوطن سيبقى في قلوب رفاقنا. سيبقى في المائدة التي جمعتنا، في الدعاء الذي رفعه صديقنا في مكة، في الذكرى التي أبقت اسم أم جهاد حيًّا بيننا، وفي تلك الجملة التي وُلدت في لحظة صفاء لتبقى أبدًا: الرفقاء أوطان.
شواهد خالدة: حين تتجسد العبارة في التاريخ والرمز
* الرسول ﷺ وأبو بكر الصديق رضي الله عنه: في الغار لم يكن الجدار وطنًا، بل الصحبة.
*صلاح الدين الأيوبي ورفاقه: صنعوا من القلوب حصونًا حررت القدس.
*غرباء الأندلس: وجدوا في رفقاء المنفى أوطانًا بديلة عن غرناطة الضائعة.
*رفاق الزنازين في فلسطين: جعلوا من سجنٍ ضيق وطنًا واسعًا بالأمل.
الحكاية الرمزية: الشجرة والظل
يحكى أن مسافرًا عطِشًا جلس تحت شجرة، وقال: أنتِ وطني اليوم. فأجابته: أنا رفيقتك، وكل رفيقٍ صدق ظلّ، وكل ظلٍّ صدق وطن.
وختامًا: من مجالس الجمعة إلى دعاء مكة، من غار ثور إلى فلسطين، من غرناطة إلى القدس ، يظلّ الدرس واحدًا: الوطن ليس دائمًا أرضًا، بل رفيقًا. إن الجملة التي خرجت عفوية من قلب صديق، “الرفقاء أوطان”، لم تكن وصفًا للحظة عابرة، بل كانت خلاصة التاريخ كله، ورسالة الإنسانية الباقية. ولعلّ أعظم هدية يمكن أن نهبها لأنفسنا ليست قطعة أرض ولا راية، بل رفيق صادق، لأن كل رفيق صادق وطن، وكل وطن صادق رفيق.