حوار لم تشهده الأرض

Getting your Trinity Audio player ready...

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

“غزة والمدينة المترفة”

كان الليل قد أسدل ستاره على أرجاء الأرض، غير أن الليل في غزة غير الليل في غيرها؛ هناك يصبح الليل معراجًا للروح، يُسمع فيه وجيب القلوب أكثر من ضوضاء المدافع، وتلمع فيه نجوم الأمل رغم دخان الحرب. وفي مكان آخر، بعيدٍ عن الدم والدموع، تتلألأ أضواء مدينة مترفة، أضواء لا تعرف السكون، أسواق عامرة، موسيقى تعلو حتى تطغى على همس الضمير، أبراج شامخة كأنها تتحدى السماء، لكنها خاوية من المعنى.

وفي لحظة نادرة، لحظة لم يشهدها التاريخ من قبل، جمع القدر بين غزة والمدينة المترفة في حوار صامت، كأن الأرض نفسها أرادت أن تنطق بما يعجز البشر عن قوله.

غزة:
أنا لست مدينة كغيري، أنا روح تمشي على الأرض، وجُرح مفتوح يفيض حياة. على ترابي تعلّمتُ أن القيادة ليست بسلطان يُفرض، ولا بمال يُغدق، وإنما بإيمانٍ يسكب في القلوب يقينًا لا تهزمه المدافع. هنا يولد القادة من رحم الألم، ويتربى الأطفال على أن التضحية طريق إلى الخلود.

المدينة المترفة:
وأنا… أعيش في بريق لا ينطفئ. شوارعي مرصوفة بالذهب، قصوري تعانق السحاب، وأهلي يركضون وراء لذة لا تنتهي. أُدير وجهي عن صراخ المظلومين، فالغفلة أسهل من المواجهة. عندي كل شيء إلا الطمأنينة، وكل زينة إلا المعنى.

غزة:
أما أنا، فعندي كل جراح الدنيا، لكنني أملك المعنى كله. أطفالي يولدون تحت الركام، لكنهم يفتحون أعينهم على السماء لا على الشاشات. رجالنا يشيعون شهداءهم بالدعاء، لا بالتصفيق، ويكبرون على جراحهم كما يكبرون في صلاتهم. عقيدتنا أن “الدم أغلى من الذهب”، وأن الأرض لا تعطيك حقها إلا إذا رويتها بالدموع والصبر.

قال العقاد يومًا: “إن القيادة الحقة ليست أن يقود الإنسان الناس، بل أن يقود نفسه أولاً إلى المعنى.” وغزة تقود نفسها منذ عقود إلى ربها، فلا تنكسر وإن اجتمع عليها من في الأرض. وقال المسيري: “إن حضارتنا تمتحننا بمدى قدرتنا على المقاومة لا بمدى انغماسنا في الاستهلاك.” وغزة اليوم دليل على أن المقاومة هي وجه الحضارة الحقيقية، أما الانغماس في الترف فليس إلا قشرة زائفة لا تصمد أمام أول عاصفة.

المدينة المترفة (بصوت متردد):
لكنني أملك كل ما يفتقده غيري… هل يعقل أن يكون ما عندك من الجراح أغنى مما عندي من الذهب؟

غزة:
نعم. الجراح إذا عُبدت باليقين تُصبح أبوابًا إلى الله، والدماء إذا سالت دفاعًا عن الحق تصير أنهار خلود. أما ذهبك، فيذوب مع أول اختبار. ألم يقل ابن خلدون إن الترف هو بداية سقوط العمران، وإن الأمة إذا غرقت فيه هلكت؟ أنا أقف على حدّ الفناء كل يوم، لكنني أُجدّد للحياة معناها.

المدينة المترفة:
وأنا… ألهو حتى ينهشني الفراغ. أُكدّس المال، لكنني أخاف من لحظة الحقيقة؛ لحظة يُسأل فيها المرء: ماذا قدّمت لأمتك؟ ماذا صنعت للحق؟

غزة (بصوت كأنه صدى الأرض):
أنا الجواب على هذا السؤال. أُعلّم البشرية أن القيادة الربانية ليست منصبًا، بل دمعة أمّ تودّع شهيدًا وتقول: “الحمد لله”. القيادة عندي هي ربانية المعنى، حيث لا تنحني الرؤوس إلا لله، ولا تُرفع الرايات إلا بالدم الطاهر.

في تلك اللحظة، ساد صمت ثقيل كأن الأرض كلها تُصغي. بدا للمدينة المترفة أن أبراجها العالية قصيرة جدًا أمام خيمة غزة الممزقة، وأن أضواءها الزاهية باهتة جدًا أمام شمعة تُضيء بين ركام بيت. لقد فهمت – ولو للحظة – أن القيادة الحقّة لا تُصنع في صالات المؤتمرات ولا على موائد الرفاهية، وإنما في الأزقة المبللة بالدموع، وفي الساحات التي تفيض بالتكبير، وفي قلوب لا تعرف الوهن.

كتب مالك بن نبي في “شروط النهضة”: “إن الحضارة هي أن نضيف إلى المادة روحًا.” وغزة اليوم تضيف إلى ركامها روحًا لا تفنى، لتصنع حضارة الصبر والربانية. ورحم الله القائل: “إن كلماتنا ستبقى عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح.” وغزة، بما تقدمه من دماء، هي التي تنفخ الروح في كلمات الأمة، لتتحول من شعار إلى واقع، ومن أماني إلى وعد إلهي بالنصر.

وهكذا انتهى الحوار الذي لم يشهده التاريخ. لم يكن حوارًا بين مدينتين فحسب، بل بين قيادتين: قيادة ربانية تتشكل من الجراح واليقين. وقيادة سطحية تغرق في بريق زائف. لكن الأرض سجّلت الشهادة: أن المعنى ينتصر على الرفاهية، وأن الربانية هي تاج القيادة، وأن غزة – رغم جراحها – أكبر من كل مدن الترف، وأعمق من كل أبراج خاوية.

وختامًا: هذا ليس مقالًا عن مدينة ومدينة، بل عن صراع المعنى مع القشرة، والخلود مع الزوال. وفي النهاية، ستبقى غزة شاهدًا على أن القيادة الربانية لا تُولد من الرفاهية، بل من صبرٍ يوقظ الضمير الإنساني، ومن دماءٍ تصنع للأمة مجدًا خالدًا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top