شريك القدر ومسؤولية الأثر

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في أروقة المؤسسات، حيث تتداخل الملفات مع الأصوات، حيث تتقاطع القرارات مع الواقع، يقف الإنسان في المساحة الرمادية، بين ما يُفرض عليه وما يراه، بين ما يُنفذ وما يطمح أن يُحقق. هناك، وسط هذا الحيز المتردد، يولد الإنسان الحقيقي… ذاك الذي يعرف أن قيمة كل لحظة يقضيها في عمله تتجاوز المكتب لتصل إلى الأسرة، المجتمع، وإلى كل قلب يلمس أثره.

في البداية، كان موظفًا بسيطًا، سكرتيرًا في زاوية مكتبه، يتنقل بين الملفات والمراسلات، لا أحد يراه سوى الأوراق والساعة التي تحدد وقته. لكن في داخله كان شعور عميق بالمسؤولية: كل كلمة، كل نصيحة، كل تصرف صغير، أمانة يجب أن تُحفظ، وأثر يجب أن يُحدث. لم يكتف بالساعات الرسمية، بل منح المؤسسة وقته وجهده، نصح بأدب، حمل الملاحظات بحكمة، وكرر النصائح بلباقة وروح إيجابية، حتى صارت نصائحه موضع ثقة. لم تكن رحلته مجرد صعود وظيفي. كان الطريق مليئًا بالتحديات: مواقف تتطلب الصبر، قرارات تتطلب الدقة، أحيانًا مواجهة التردد، وأحيانًا مواجهة مقاومة التغيير. لكنه لم يستسلم، لأنه كان يعرف: الإنسان الفاعل لا يكتفي بما يُطلب منه، بل يسعى لما يحتاجه المكان، وللأثر الذي يتركه وراءه. مع مرور الوقت، ارتقت الثقة، وفتحت له الفرص، ليصبح مديرًا لمؤسسات ومشروعات ضخمة، ثم خبيرًا عالميًا في تطوير المؤسسات استراتيجيًا. لم يكن منصبه مجرد رتبة، بل تاجًا على رأس أمانة الكلمة، ومسؤولية الفعل، وشراكة في صنع القرار. لقد تحول السكرتير الصامت إلى قائد مؤثر، يغير الواقع بروحه، بكلماته، وبأفعاله الصغيرة والكبيرة على حد سواء.

شريك وليس أجيرًا

الموظف الشريك يحمل وعيًا عميقًا بأن ما يقوم به له أثر، وأن المؤسسة ليست مجرد مكان للاختباء وراء الساعة أو الإجراءات، بل مساحة لصنع القرار، وإحداث الفرق، وبناء الأثر. الشراكة تعني: تحمل المسؤولية، تقديم الحلول، التحلي بالإيجابية، والحرص على أن كل فعل يترك أثرًا يتجاوز المكتب. التاريخ مليء بالأمثلة: المستشار الذي لم يكن قائدًا رسميًا، لكنه كان صانع القرار الحقيقي. الكلمة التي قيلت في الوقت المناسب، المبادرة التي لم يلحظها أحد حينها، لكنها أحدثت فرقًا هائلًا لاحقًا. الموظف الشريك يجعل المؤسسة أكثر من مبنى، أكثر من عملية، وأكثر من راتب… يجعلها نورًا، ثقة، وإبداعًا.

أمانة مستمرة

النصح ليس مجرد مرة واحدة. هو سلسلة متصلة، تتكرر بروح إيجابية، تصاغ بحسب المواقف، تُعدل بحسب المستجدات. الموظف الفاعل يعلم أن أمانة الكلمة ليست مجرد نصيحة عابرة، بل مسؤولية تجاه المؤسسة، الزملاء، ونفسه.قال الغزالي: “النصيحة دين، من ضيّعها فقد خان.” الفعل المبني على النصح المتكرر، الصدق، الحرص، والنية الخالصة، يترك أثرًا طويل المدى، يمتد من المؤسسة إلى الأسرة، ومن الأسرة إلى المجتمع، ومن المجتمع إلى الأجيال القادمة.

اختبار النفس والفرصة الكبرى

المساحة الرمادية ليست عائقًا، بل اختبارًا للنفس. هناك يقف الموظف بين ما يُفرض وما يُرى، بين التردد والفعل. كثيرون يتركونها بلا أثر، مجرد عابري سبيل، لكن الفعل الواعي، المبني على أمانة الكلمة، يحول الرمادية إلى نور، ويجعل الموظف شريكًا حقيقيًا، قادرًا على ترك أثر يمتد إلى المؤسسة، الأسرة، والمجتمع. الضوء في هذه المساحة يأتي من القدرة على التأثير، الصبر على التكرار، الالتزام بالصدق، والحرص على كل كلمة. كل موقف يُعالج بأمانة، كل نصيحة تُعاد صياغتها بأسلوب مختلف، كل ابتسامة تحمل احترامًا، كل إجراء محسّن… يصنع شخصية متكاملة، إنسانًا فاعلًا، قائدًا مؤثرًا، ورب أسرة حقيقيًا.

الأثر الذي يتجاوز المكتب

الأثر الحقيقي للموظف يمتد إلى ما هو أبعد من المؤسسة: الأسرة، الأصدقاء، المجتمع. كيف يمكن للإنسان أن يكون قدوة لأولاده إذا لم يرَ أثر المبادئ التي يعلمها في واقعه العملي؟ كيف يمكن أن يُربي أجيالًا قادرة على القيادة، إذا لم يرَ نفسه نموذجًا حيًا للفعل والمسؤولية؟
غاندي قال: “كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم.” الموظف الذي يتحلى بالمسؤولية، الإيجابية، النصيحة، أمانة الكلمة، يصبح نموذجًا حيًا للإنسان الكامل: رب أسرة، شريك في المؤسسة، مؤثر في مجتمعه، وفاعل في حياته… وأثره خالد، يزداد إشراقًا مع مرور الأيام.

درب الإنسان الفاعل

الإنسان الفاعل في مؤسسته لا يعمل من أجل الراتب أو المنصب فقط، بل من أجل الإيجابية، من أجل الأثر، من أجل أن تكون كل مبادرة، كل نصيحة، كل فعل، إضافة حقيقية للآخرين. التحمل هنا لا يعني الصبر السلبي، بل القدرة على مواجهة التحديات، المثابرة، والاستمرار في تقديم الأفضل رغم كل الصعاب.

الموظف شريك القدر ومسؤولية الأثر

الموظف الفاعل، الذي يمنح وقته وجهده، يأخذ أمانة الكلمة على عاتقه، يكرر النصيحة، ويعيش لكل أثر يمكنه صنعه، يصبح شريك القدر، صانع الأثر، قائدًا حكيمًا، ونموذجًا للإنسان الكامل.ليس المهم أن يكون في منصب، بل أن يكون فاعلًا، مسؤولًا، مؤثرًا، صادقًا، إيجابيًا، ناشرًا للخير والحق، حاملًا لأمانة الكلمة، ومدركًا لأثر كل فعل. الموظف الشريك هو نموذج للإنسان الكامل الذي يجعل من كل كلمة، نصيحة، ولحظة، خطوة نحو بناء عالم أفضل… وهكذا يظل أثره خالدًا، محفورًا في الزمن، كملحمة حية لا تُنسى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top