|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

في زحمة المدينة، حيث تتشابك السيارات وتتوهج الأضواء، هناك مكان يظنه كثيرون مجرد محطة للشراء، لكنه في الحقيقة مسرح صامت للحياة، مرآة للإنسان وروحه: المركز التجاري. دخلته ذلك اليوم برفقة الأهل، وكعادتي آثرت أن أتنحّى جانبًا بعيدًا عن الأعين، لأكتفي بمراقبة المشهد في صمت، بلا تدخل، بلا اندفاع، كأنني أقرأ كتابًا مفتوحًا عن البشر. جلست في زاوية بعيدة، وفتحت عين القلب قبل عين العقل.
كانت الخطوات تتزاحم أمامي، بعضها متسارع وقلوبها مشغولة، وبعضها هادئ كأن صاحبه يعرف الطريق الذي يريد. الأطفال ركضوا أمامي، عيونهم تسبق أقدامهم، كأنهم يتنقلون بين ألوان الجنة التي تحاكي واجهات الألعاب. الأمهات يحاولن موازنة الحب بالميزانية، والآباء يحسبون الثمن والوقت بعين الحساب، فيما الصغار لا يعرفون إلا طلب الرغبات التي تشعل ابتساماتهم. هنا تذكرت قول الجاحظ: “الإنسان هو الحيوان الذي إذا شبِع شُغِل، وإذا جاع هزل، لا يقف في حال واحدة.” فالمركز التجاري ليس مجرد سوق، بل نموذج مصغر لكل إنسان، لرغباته المتجددة، واحتياجاته المتباينة بين الضروري والكمالي، وبين القلب والعقل.
اقتربت من أسرة صغيرة: الأب يمسك بأيدي أبنائه جميعًا، والأم تحاول توجيههم بين متجر وأخر، والطفل يلمع في عينيه الحلم البريء. كان الأب يتأمل الأسعار، يزنها بعين الحساب، والأم توازن بين الحلم والواقع، والطفل يركض بينهما لا يعرف ما هو ممكن وما هو مستحيل. لحظة صمت صامتة، تعكس قول الفاروق عمر بن الخطاب: “إني لأكره أن أرى أحدكم فارغًا، لا هو في أمر دين ولا دنيا.” فالحياة هنا امتحان للقلب، كما هي امتحان للعقل: كيف نوازن بين الرغبة والمسؤولية؟ بين الفرح والقيود؟
مرّت مجموعة من الشباب، ضحكاتهم تعانق سقف المكان، يلتقطون الصور أمام واجهات براقة، كأنهم يثبتون للعالم أنهم كانوا هنا، الآن، في هذا الزمن. تذكرت كلام سقراط: “الحياة غير الممحوصة لا تستحق أن تُعاش.” كم من لحظة تمرّ دون أن نعيشها حقًا؟ وكم من صورة تختصر أكثر مما يجب، وتترك عمق المشاعر غائبًا؟ وفي زاوية بعيدة، جلست امرأة مسنّة، لا تحمل شيئًا، ولا تتبع الزحام، تراقب الصغار والضحكات والوجوه. كان حضورها هادئًا، رغم الوحدة، وكأنها تعرف سر الحياة: ليس كل ما نركض وراءه يستحق الجهد، وأن المشاهدة أحيانًا خير من المشاركة في كل شيء. هنا شعرت بصدق قول الغزالي: “القلب في فطرته كالصبي الصغير، ما لم يُهذّب شبّ على ما عوّدته.”
مر عامل النظافة بين الجميع، يكنس الأرض، لا يراه أحد، لكنه كان أكثرهم حضورًا. لم يكن يجمع مالًا، بل كان يعطي عملًا صامتًا، يرمز إلى قول النبي ﷺ: “إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.” فكم من أعمال صغيرة، لا يلتفت إليها الناس، لكنها عند الله أعظم من كل مظاهر التفاخر.
تأملت الأطفال. في عيونهم لمعان البراءة، لم يعرفوا بعد أن الرغبة لا تنتهي، وأن الزمن يمضي سريعًا. كانوا يركضون بين المتاجر وكأنهم يركضون في جنات الله، بلا حساب، بلا قلق، فقط فرح خالص. وتذكرت قول المتنبي: “وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسامُ.” فالقلب الكبير يبحث دائمًا عن معنى أكبر من المتاح، وعن فرح أعمق من اللمس أو اللعب.
أما الآباء، فقد اكتشفت أنهم في كل حركة، وفي كل صراع مع المشتريات، يختبرون أنفسهم: هل يقنعون بما هو كافٍ؟ هل يمنحون أطفالهم أكثر مما يستطيعون، أم أقل مما يحتاجون؟ وهنا أدركت عمق قول علي بن أبي طالب: “الزهد ليس أن تملك شيئًا، بل أن لا يملكك شيء.” فالرغبات كثيرة، لكن الإنسان الحكيم يعرف متى يملكها ومتى يتركها.
في المشهد ذاته، لاحظت الشاب الذي يتأمل ساعة باهظة الثمن، لا يملكها، لكنه يطيل النظر إليها. تساءلت: هل السعادة تُقاس بالمقتنيات؟ أم بالطمأنينة التي تهبها القناعة؟ تذكرت قول ابن تيمية: “ليس الزهد في الدنيا بتركها بالكلية، وإنما الزهد أن تكون الدنيا في يدك لا في قلبك.”
ومرّت أمامي أسرة أخرى، يبدو أنهم فقدوا السيطرة على رغبات الأطفال، وكانت الصرخات تتعالى هنا وهناك. لم يكن الأمر مجرد فوضى، بل درس في الصبر، في ضبط النفس، في كيف نواجه تحديات صغيرة تعكس تحديات أكبر في الحياة. هنا أدركت أن المركز التجاري مدرسة للإنسانية، يعلمنا الصبر والرحمة والموازنة بين الحاجات والرغبات.
حين خرجت، لم أحمل أكياسًا، بل حملت معنى. أيقنت أن السوق ليس مجرد مكان للتجارة، بل مرآة للحياة: يظهر صبر الآباء، وحنان الأمهات. يكشف رغبات الأطفال وبراءتهم.
يظهر طموح الشباب وأحلامهم.
ويبرز القلوب الصامتة التي تعمل دون أن يلاحظها أحد. وما يجمع كل هؤلاء أنهم، رغم اختلافاتهم، يبحثون عن شيء واحد: السكينة. والسكينة لا تُشترى، بل تُهدى من الله، من خلال التوازن بين الرغبة والقناعة، بين الفرح والمسؤولية، بين القلب والعقل.
وختامًا، ذلك اليوم، لم يكن المركز التجاري محطة عابرة، بل لوحة حية للإنسان: ما يراه وما يشعر به وما يتأمل فيه قلبه وروحه. المشهد المألوف أصبح مدهشًا، والعابر خالِدًا، والإنسان كشف عن أعظم ما فيه: قلبه الذي يبحث عن معنى، وروحه التي تطمح للطمأنينة.هكذا يصبح المكان العادي مدرسة للحياة، والزمان البسيط رسالة للعقل، والمشهد اليومي كشفًا عن عمق الإنسان، كما قال تعالى:﴿أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد: 28]،
فتصبح كل حركة، كل رغبة، كل ابتسامة، فرصة للتأمل، وللقرب من المعنى الأسمى.