| 
                          Getting your Trinity Audio player ready...
                       | 

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

في لحظة من العمر، قد يفتح الإنسان بوابة قصر عظيم تُفتح له بضغط زر من جهاز تحكم، فيتقدم بخطوات محسوبة نحو صالة تتلألأ بالثريات، ويخال نفسه سيد المكان. غير أن الحارس الذي يبتسم له عند المدخل، قد يحمل في جيبه ورقة تخبره أن “سعادة المالك” يستأذنه في إخلاء القصر بعد حين، وفقًا لما يقتضيه العقد. تلك الورقة وحدها كفيلة بأن تذكره أنه، مهما تزينت الجدران بالذهب، يظل مستأجرًا، وأن الزمن ليس في صفه. وفي المقابل، قد يعود آخر إلى كوخ صغير في مساءٍ متواضع، فيجلس على عتبته الخشنة، وبين يديه كوب شاي دافئ، ينظر إلى السماء وكأنه يملك مفاتيحها. لا حارس يطرق بابه بورقة إخلاء، ولا عقد يربط سعادته بتاريخ انتهاء. إنه “ملكٌ” بحق، لا لأن جدرانه من طين، بل لأن قلبه مطمئن أن ما يجلس فيه “ملكه”، ولو كان بيتًا من خشب.
ملكية المكان أم ملكية الطمأنينة؟
ليس الحديث هنا عن الأبنية وحدها، بل عن المعنى الأعمق: الفرق بين من يعيش تحت رحمة الغير، ومن يملك زمام أمره. وقديمًا قال أرسطو: “الحرية هي الطاعة للقانون الذي نرسمه نحن لأنفسنا.”، وهنا تكمن العبرة: أن الأمان الحقيقي ليس في وفرة المظاهر، بل في القدرة على أن تكون سيد قرارك.
من القصر إلى المكتب
والأمر ذاته ينطبق على العمل. فكم من موظف عاش في برج إداري شاهق، مكتبه محاط بديكورات فاخرة، لكن مصيره معلق برسالة إلكترونية تحمل عبارة باردة: “انتهى عقدك”. في لحظة واحدة، ينهار صرح السنوات، لأن العلاقة لم تكن أكثر من “إيجار وظيفي”. بينما آخر أسس مؤسسة صغيرة، بدأها من مكتب ضيق وربما طاولة متواضعة، لكنه حين جلس عليها شعر أنه يملك مصيره. وإن كان دخله أقل أو طريقه أصعب، إلا أن قراره ملك له، لا ينتظر إذنًا من أحد. وهنا نستحضر قول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “الغنى في النفس، والفقر في القلب.”، فالذي يملك قراره لا يُستعبد، وإن بدا للناس قليل الموارد.
الحرية ليست حجم المكان
القصر بالإيجار والوظيفة الفارهة المتقلّبة يشتركان في شيء واحد: الرفاهية الظاهرة بلا طمأنينة باطنة. بينما الكوخ بالملك والمؤسسة الصغيرة يشتركان في شيء آخر: البساطة الظاهرة مقرونة بعمق الأمان. ولذلك، فإن قيمة الإنسان لا تُقاس بما يملك من مظاهر، بل بما يملك من حرية. قال سبينوزا: “الحرية الحقيقية هي أن نعيش وفق ما تمليه علينا عقولنا.”، وهنا جوهر الطمأنينة: أن نختار نحن مسارنا، لا أن يُفرض علينا بقرار أو عقد.
قصر مؤجر لا يدوم
وإذا تعمقنا أكثر، سنرى أن هذه الرمزية تمثل حال الإنسان في الدنيا كلها. فنحن، مهما عمرنا وبنينا، لسنا إلا “مستأجرين” في قصر الحياة. سيأتي اليوم الذي تُطرق فيه أبوابنا، ويُطلب منا الإخلاء، دون مهلة إضافية. الدنيا عقد إيجار، والآخرة دار الملك. وقد أبدع أبو حامد الغزالي حين قال: “الدنيا مزرعة الآخرة، والعمل فيها تجارة رابحة لمن عقل.” فمن عمر حياته بالرضا والعمل الصالح، فإنه لا يغادر قصر الدنيا إلا ليحلّ في ملكٍ لا يزول.
العزّة في القناعة
القصر بالإيجار قد يعطيك رفاهية لحظية، لكنه يبقيك تابعًا. والوظيفة قد تمنحك راتبًا مرتفعًا، لكنها تجعلك رهينة توقيعٍ من آخر. أما الكوخ المملوك، فهو يمنحك كرامة الاستقرار، والمؤسسة الخاصة تعطيك عزة القرار. وهنا يحضر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟”، فالحرية ليست في الجدران ولا المكاتب، بل في أن تظل سيد نفسك، لا عبدًا لعقدٍ ولا تابعًا لمزاج مالك.
الراحة في الطمأنينة لا في الثراء
ذلك الذي يحتسي الشاي أمام كوخه، أو الذي يدير عمله المتواضع بقراره، ينام في راحة بالٍ لا يملكها كثير ممن يسكنون قصورًا أو يعتلون كراسي مؤقتة. فالطمأنينة لا تُشترى، بل تُصنع من الرضا واليقين. يقول جبران خليل جبران: “الحرية صراع الإنسان ليكون نفسه.”، وهنا ندرك أن الحرية ليست غياب القيود فحسب، بل حضور الطمأنينة الداخلية.
الحرية اختيار.. والملك يقين
في النهاية، الرسالة ليست أن نترك القصور أو الوظائف، ولكن أن ندرك حقيقتها: أنها مؤقتة، مشروطة، لا تمنحنا الملكية المطلقة. الأمان الحقيقي هو في أن نبني شيئًا يخصنا، حتى لو كان بسيطًا: بيت صغير، مؤسسة ناشئة، أو حتى رؤية واضحة للحياة. وعندها فقط، يمكن للإنسان أن يقول كما قال أبو العتاهية:
وإذا قنعتَ تكن أغنى الورى طُرًّا
فإنّما الغنى غِنى النفسِ لا المالُ
وختامًا، فلنختر أن نكون “أصحاب بيوت” لا “مستأجرين” في حياتنا. أن نكون “أصحاب قرار” لا “موظفين دائمًا تحت تهديد عقد”. أن نعيش في الدنيا بوعي أنها قصر بالإيجار، لنغرس فيها بذور ملكٍ أبدي في الآخرة. حينها فقط، سيجلس كل واحد منا مساءً، سواء على عتبة كوخ أو في مكتب متواضع، وهو يحتسي كوب شاي مطمئن، كأنه ملكٌ حقيقي. ملك لا بسلطان الأرض، بل بسلام القلب، وعزّة النفس، وحرية الروح.
