|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

“فلنربطِ القلبَ ونصدقْ فصفُّنا كالبنيانِ أشدق“
هكذا تهمس الأبيات، وكأنها خيط سري يربطني بالمكان الأول الذي أبصر فيه قلبي النور قبل أن تبصره عيناي. إنها ههيا، البلدة الوادعة في محافظة الشرقية بمصر، حيث أخذت أول أنفاسي، وحيث تعلمت أن للتراب ذاكرة، وأن للأرض وجوهًا تحفظنا كما نحفظها.
طفولة في أحضان الأرض
كبرت بين الأزقة الصغيرة التي تشبه ضفائر الطفولة: متشابكة، حية، لا تخلو من صخب ولا من حكايات. كانت شوارع ههيا تحمل أصوات الباعة، ووقع أقدام العائدين من الحقول، وضحكات الأطفال وهم يلعبون “الاستغماية” حتى يختفي آخر ضوء للشمس. هناك، تعلمت أن البساطة ليست نقصًا، بل هي امتلاء. فالبيت الطيني الصغير كان أكثر رحابة من القصور، لأنه كان يحمل دفء الأهل والجيران. والخطوات التي قادتني إلى الكُتّاب لتعلّم القرآن كانت أول بوابة فتحت أمامي طريق المعرفة والإيمان. يقول الإمام علي رضي الله عنه: “من لم يعرف قدر ما مضى من أيامه لم يُقدّر ما بقي من عمره.” وهكذا، فإن كل لحظة في طفولتي بههيا كانت حجرًا في بناء نفسي، وأساسًا لقيمة أدركها لاحقًا: أن الإنسان لا يكتمل إلا بجذوره.
ذاكرة المكان
قد يظن البعض أن المدن الصغيرة لا تترك أثرًا كبيرًا، لكنني أدركت أن الأثر لا يُقاس بحجم المكان، بل بعمق التجربة. فههيا علمتني أن أعظم المدارس ليست تلك التي ترفع أسماءً لامعة، بل التي تغرس فيك أول معنى للانتماء. كنت أرى في وجوه الرجال الخارجين مع الفجر إلى الحقول صورة الكدّ الشريف. وأرى في وجوه الأمهات وهن يخبزن العيش البلدي نارًا أقدس من نار الملوك، لأنها تشعل الحياة لا لتُحرقها، بل لتطعمها. إن ههيا ليست مجرد محطة ميلاد، بل هي ذاكرة جمعية تختزن حكايات آلاف من الناس الذين حملوا أحلامهم على أكتافهم، وتركوا في طرقاتها صدى خطواتهم.
الاغتراب والحنين
ما أقسى أن تبتعد عن أول مكان احتضنك. الغربة تعلمك الكثير، لكنها لا تمحو من قلبك صورة البلدة الأولى. كلما سافرت بعيدًا، كانت ههيا تلاحقني: في طعم الخبز الذي أفتقده، في رائحة المطر الذي يعيدني إلى شوارعها الترابية، في صوت الأذان الذي كنت أسمعه من المسجد القريب. يقول محمود درويش: “الحنين هو توق الإنسان إلى مكان لم يعد ممكنًا العودة إليه، أو ربما لم يكن موجودًا إلا في خياله.” ومع ذلك، فإن حنيني إلى ههيا لم يكن خيالًا، بل حقيقة متجددة. كلما أغمضت عيني، رأيت حقولها الخضراء تمتد بلا نهاية، ورأيت نهرًا صغيرًا يعكس ضوء القمر كأنه يحكي قصة الأبدية.
البلدة بوصفها مرآة للذات
ههيا هي مرآتي. فيها انعكس ضعفي حين كنت طفلًا لا يملك من الدنيا إلا دمعة وبسمة، وفيها انعكست قوتي حين تعلمت أن أحلم. وهي لا تزال مرآتي اليوم، تذكرني أن الإنسان بلا جذور كالسحاب بلا مطر. صدق القائل : “الإنسان لا يترك أرض ميلاده، بل تترك الأرض بصمتها عليه إلى الأبد.” وقد تركت ههيا بصمتها في صوتي، في ملامحي، في إيماني بأن البساطة يمكن أن تهزم الزيف، وأن الحق لا يُقاس بالضجيج بل بالثبات.
ههيا والأمة الكبرى
قد تبدو البلدة صغيرة، لكنها في قلبي رمز لوطن أكبر: مصر. مصر التي حملت عبر التاريخ صفة الحضارة، وظلت عبر العصور قلب الأمة العربية والإسلامية. ومن خلال ههيا، تعلمت أن الانتماء الصغير يقود إلى انتماء أكبر، وأن من لم يُخلص لقريته لا يمكن أن يُخلص لوطنه.في كل ركن من ههيا أجد درسًا. فإذا كان الفلاح يصبر على الأرض حتى تُنبت، فلماذا لا نصبر نحن على أحلامنا حتى تنضج؟ وإذا كان الجار يواسي جاره في الحزن والفرح، فلماذا لا نصبح نحن أمة متراصة كالبنيان المرصوص؟
لمحة واجبنا تجاه غزة
حين أتذكر ههيا، لا أستطيع إلا أن أربطها بغزة. فههيا أعطتني الميلاد والحنين، وغزة تعطيني اليوم الواجب والمسؤولية. كلاهما مدينتان تحملان معنى الانتماء، لكن غزة وحدها اليوم تختصر جراح الأمة كلها.
واجبنا تجاه غزة هو امتداد لواجبنا تجاه بلداتنا الأولى. كما نحفظ ذكرى ههيا في قلوبنا، يجب أن نحفظ غزة في أفعالنا. ليس بالكلام وحده، بل بالدعاء الصادق، بالعطاء الكريم، بالموقف الثابت، وبالوعي الذي يفضح كل ظلم. يقول توماس كارلايل: “الأبطال هم الذين يضحّون بأنفسهم ليتركوا طريقًا للآخرين.” وأبطال غزة اليوم يصنعون تاريخًا سيذكره العالم، لكن السؤال: ماذا نصنع نحن؟ هل نبقى متفرجين، أم نصبح مرصوصين كاللبنات لنكمل بناء الكرامة؟
وختامًا، ههيا لم تكن مجرد مكان ولادتي، بل كانت أول مدرسة للحب، للانتماء، وللصبر. ومن بين أزقتها تعلمت أن الوفاء لا يُشترى، وأن الأرض التي نولد عليها تبقى تسري في دمنا حتى آخر العمر.وإذا كانت ههيا قد منحتني الجذور، فإن غزة اليوم تمنحني التحدي. كلاهما يلتقيان في وصية واحدة: فلنربطِ القلبَ ونصدقْ فصفُّنا كالبنيانِ أشدق