حين كانت القيم تُزرع بلا استئذان

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في مساءٍ دافئٍ على ضفاف الذاكرة، جلس صديقان من جيل واحد، جمعتهما طفولة متقاربة وزمن تتداخل فيه أصوات المذياع برائحة الخبز الطازج، والحيّ الشعبي بصوت المؤذن الذي كان يسبق كل شيء. جلسا وقد أرهقهما ما يريان من تبدّل أحوال الأجيال، فبدأ الحوار كأنّه عودة إلى البدايات.

قال الأول وهو يبتسم ابتسامة يعلوها شجن: “أتذكر يا صديقي كيف كانت القيم تدخل إلى قلوبنا بلا جهد؟ لم تكن محاضرات ولا خطب طويلة، بل كانت تنساب إلينا كما ينساب الضوء في نافذة مفتوحة.”

ردّ الآخر وهو يطأطئ رأسه: بلى، كأنّ الحياة كلّها كانت معلمًا. البيت يضع البذرة، والأسرة الصغيرة تسقيها، والعائلة الكبيرة تحيطها بسياج الأمان، والجيران يظلونها بالحياء والاحترام، والمجتمع يمنحها الهواء، والمدرسة تهذبها بالعلم، والمسجد يباركها بالروح، وحتى البرامج الإذاعية كانت تُذكّرنا بما ننسى.”

ابتسم الأول وقال: أتعلم؟ لقد قرأت قول الإمام الغزالي: “الولد أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما يُنقش، فإن عُوِّد الخير وعُلِّم نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة”. وكأن الغزالي كان يصف ما عشناه حرفًا بحرف.

أطرق الثاني ثم قال: “اليوم نفتقد تلك المنظومة المتكاملة. كل مؤسسة باتت تعمل منفردة، أو تنسحب من مهمتها. الأسرة مشغولة بالضغوط، المدرسة مثقلة بالمناهج، المسجد محاصر بقيود، الإعلام متشظٍ. لم يعد هناك ذاك التكامل الذي كان يجعل القيم تُغرس فينا بلا أن نشعر.”

ضحك الأول ضحكةً حزينة وقال:
“سبحان الله، حتى الجيران كانوا معلمين. كم مرة تعلمنا الحياء لمجرد أن جارة عجوز كانت تُطل من شرفتها فتنبهنا أن نخفض أصواتنا؟ لم تكن بحاجة إلى خطاب، كانت مجرد نظرتها تكفي لتضع ميزانًا جديدًا لسلوكنا.”

هنا استحضر الثاني مقولة ابن خلدون في مقدمته: “الإنسان ابنُ عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته”. ثم قال: نعم، نحن أبناء عادات صاغتها الأسرة والجيران والمجتمع. فإذا تبدّلت العادات، تبدّلت القيم. ولهذا ترى جيلنا اليوم غريبًا في بيئته، لا يعرف من أي نبع يشرب.

رد الأول وقد تلألأت عيناه: ومع ذلك، لم يكن كل شيء مثاليًا. لكن كان هناك توازن عجيب. البيت لم يكن يملك كل شيء، لكنه كان يملك الكلمة الأولى. المدرسة لم تكن متطورة، لكنها كانت تحافظ على الهيبة. المسجد لم يكن مكيّفًا ولا فخمًا، لكنه كان مليئًا بالسكينة. والمذياع… يا له من معلم صامت! من منا لم يتعلم من برنامج “نور على الدرب” أو من صوت مذيع يقرأ علينا آية أو حديثًا؟

هزّ الثاني رأسه متأملاً: أتذكر كيف كنا ننتظر نشرة الأخبار وكأنها درس في الأخلاق والوطنية؟ وكيف كانت الأناشيد التي تسبق البرامج الدينية تبني فينا حب الخير؟ إن المذياع كان شريكًا في التربية. اليوم صارت الشاشات شريكًا في التشتيت.
ثم ساد صمت قصير، تبادلا خلاله نظرات يعلوها الحنين.

قال الأول: “التربية يا صديقي لم تكن كلمات، كانت حياة. أذكر مقولة لسقراط: “التربية هي أن نمنح الجسد والروح كل الجمال وكل الكمال الممكن”. نحن كنا نتلقى ذلك الجمال من أبسط المظاهر: من طريقة الأب حين يحيي الجار، من دمعة الأم وهي تدعو لنا، من معلم يكتب بخط جميل على السبورة، من مؤذن يهزّ الأفق بصوته.”

ابتسم الثاني وقال: “جميل أنك تذكرت. وهل ننسى كيف كانت المدرسة تعلمنا النظام من خلال الطابور الصباحي؟ وكيف كنا نحفظ النشيد الوطني معًا، ونردد آيات القرآن بصوت واحد؟ ذلك الانسجام لم يكن مجرد نشاط مدرسي، كان تدريبًا على الانتماء.”

أجاب الأول وقد بان صوته مفعمًا بالحنين: “نعم، لقد كانت التربية منظومة تكامل. اليوم يتحدثون عن “البرامج المتكاملة للتنمية الأخلاقية”، ونحن نعرف أن ذلك كان واقعًا معاشًا. لم نكن بحاجة إلى عناوين كبيرة، لأن البيت والجيران والمدرسة والمسجد والإذاعة أدوا الدور بصدق وإخلاص.”

قال الثاني: “ولأنهم أدّوا أدوارهم، كنا نحن نحيا القيم لا نحفظها فقط. الفرق كبير بين أن تحفظ معنى الأمانة وبين أن ترى والدك يرفض رشوة في عمله. وبين أن تحفظ معنى الكرم وبين أن ترى أمك تضع جزءًا من طعامكم لجار محتاج. هذه المشاهد كانت أبلغ من آلاف المحاضرات.”

هز الأول رأسه موافقًا ثم قال: “لذلك أقول لك: إن ما نحتاجه اليوم ليس العودة إلى الوراء، بل إعادة بناء تلك المنظومة. نريد أن نعيد للبيت مكانته، وللجيران دورهم، وللمدرسة هيبتها، وللمسجد حضوره، وللإعلام رسالته. وإلا سنظل نزرع في أرض بلا ماء.

أجاب الثاني متأملًا: “لعل في قول مالك بن نبي حكمة هنا، حين قال: “المشكلة ليست في أن نُعلِّم المسلم عقيدةً هو يملكها، وإنما في أن نُربي فيه العقل الذي يفكر وفق هذه العقيدة”. فالمسألة ليست أن نكرر القيم، بل أن نعيد بناء العقل والوجدان ليعيشها.”

ابتسم الأول وقال:”لقد صدقت. نحن نحتاج إلى منظومة تُعيد للتربية بريقها. وربما يكون دورنا نحن أن ننقل هذه الذكريات إلى الأجيال القادمة، لا كحنينٍ فقط، بل كدروس عملية.”

تنهّد الثاني ثم قال: “إذا كنا نحن جيل الأمس قد تربينا على تكامل الأدوار، فإن جيل اليوم يحتاج أن يرى فينا نحن صورة ذلك التكامل. وإلا سيظن أن كلامنا مجرد ماضٍ لا يعود.” وقف الأول وألقى نظرة على الأفق كمن يخاطب الغيب:” يا صديقي، القيم كالنور، لا تنطفئ إلا إذا أطفأناها نحن. فلنكن نحن شمعة تُضيء في هذا الليل الطويل.”

لقد انتهى الحوار، لكن صداه ظل يملأ المكان. كان صديقان من جيل واحد، يتحدثان عن زمنٍ لم يكن فيه القيم دروسًا مكتوبة، بل حياة تُعاش، ومنظومة متكاملة تُغرس بلا استئذان. لقد علّما القارئ أن التربية ليست مشروعًا فرديًا، بل نسيجًا من بيت وجار ومدرسة ومسجد وإعلام، وأن فقدان أحد الخيوط قد يُضعف النسيج، لكن بقاء الروح قادرة على إعادة نسجه من جديد. وكما قال جبران خليل جبران: “أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة”. والحياة نفسها هي التي تولّت يومًا غرس القيم، وما علينا إلا أن نعيد لها ذلك الدور، قبل أن يتيه الأبناء في طرقٍ بلا معالم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top