بين الصوت والصمت، بين العطاء والعظمة

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في قلب كل مؤسسة تكمن روح قيادتها، كالنهر الذي يشق الأرض بهدوء، لكنه يحمل في جريانه قوة تصنع الحياة حوله. هناك، في تلك القارة الإفريقية الغنية بالحياة والتاريخ، يتعلم الإنسان أن القيادة ليست مجرد منصب أو سلطة، بل فن التعامل مع الصمت والصوت، مع الفعل والنية، مع القيم والجدران التي تحميها. “لا أستخدم سوطي ما دام يجدي صوتي، ولا أصوت ما دام يجدي صمتي.” هذه الكلمات للشيخ على الطنطاوي، ليست مجرد حكمة فردية، بل جوهر القيادة. فالقائد العظيم يعرف أن القوة بلا حكمة قد تدمر ما تبنيه يداه، والصمت بلا رؤية قد يترك المؤسسة تتهاوى. إنه يتحدث حين يحتاج الأمر إلى توجيه، ويصمت حين يحتاج الفريق إلى النمو والاكتشاف، متأملًا، مستمعًا، وحكيمًا.

في إحدى المؤسسات الإفريقية، تأسست فكرة القيادة الرشيدة على هذه القاعدة البسيطة، لكنها العميقة. فالقائد، حين ينظر إلى فريقه، لا يرى مجرد موظفين، بل شراكة روحية في بناء الرؤية. كل كلمة، كل تصرف، كل مبادرة تتخذ في المؤسسة لها وزنها، لكن وزنها الحقيقي يقاس بما تزرعه من أثر في نفوس الفريق: إحساسهم بالحرية، بالثقة، بالعطاء المتبادل. القيادة هنا ليست استبدادًا، ولا رغبة في السيطرة، بل حكمة تمكّن الآخرين من النهوض بأفضل ما لديهم. تمامًا كما نبحث في جيوبنا عن أقل فئات النقود للتصدق بها، ثم نسأل الله الفردوس الأعلى، فإن القائد الحقيقي يعطي كل ما يستطيع، حتى لو بدا قليلاً، ويعلم أن العظمة ليست في الكمية، بل في النية والصدق.

وفي المؤسسة الإفريقية التي نتحدث عنها، تعلم القائد أن العطاء يربط القلوب بالرسالة أكثر من الراتب أو الامتيازات. العامل الصغير الذي يشعر بأنه مسموع ومقدر، هو من يحمل المؤسسة في قلبه، ويصبح مع مرور الأيام أكثر ولاءً وأكثر قوة، تمامًا كما أن الفرد الذي يتصدق بقطرة ماء يزرع في حياته نهراً من البركة والوفاء. القيادة ليست أيضًا في المظاهر، فهي ليست في المكاتب الفخمة ولا اللوحات المزخرفة على الجدران. يقولون: “بعض الأشخاص مثل كتاب رائع وغلافه عادي وغير جذاب! وبعض الأشخاص غلاف رائع جذاب ومحتوى فارغ!” القائد الناجح يرى الناس بمحتواهم الحقيقي، لا بمظاهرهم، يكتشف الكفاءات المخفية، ويمنحها مساحة لتزدهر. وهذا ما يجعل المؤسسة تزدهر، ليس بالضجيج أو الشهرة، بل بالصمت الذي يثمر معرفة وحكمة.

كما أن الاعتراف بالخطأ هو من أعظم فضائل القيادة. ليس كل من اعتذر ضعيفًا، فالإعتذار صفة نادرة ترفع القائد، وتكسبه احترام فريقه. القائد الذي يعترف بخطئه أمام فريقه لا يخسر وجاهته، بل يزيد مصداقيته ويزرع الثقة في نفوس من حوله. في قلب إفريقيا، حيث التحديات كبيرة، والإمكانيات محدودة، تعلم القائد أن الجرأة في الاعتراف بالخطأ تقود إلى النمو الجماعي أكثر من التظاهر بالقوة المطلقة. المؤسسة الإفريقية لم تكن مجرد مكان عمل، بل رمزًا لوطن يولد من رحم القيادة الحكيمة. حين تجد أبطاله في القبور ورجاله في السجون، قد يُغشى على المرء شعور باليأس، لكن القيادة الحقيقية تعلم أن الوطن يحتاج دائمًا إلى من يصنع الأمل، حتى من بين الرماد. القائد الحكيم يعلم أن دوره لا ينحصر في إدارة الموارد، بل في زرع رؤية ملهمة، تدفع الجميع إلى أن يكونوا أفضل نسخة من أنفسهم، رغم المصاعب.

العدالة في القيادة هي أيضًا ركيزة لا غنى عنها. كما يقول الحكماء: “الغرب يدعم الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل.” القائد الفذ يدعم الكفاءات ويعزز النجاح، لا يحاربه. إنه يعرف أن نجاح الفرد هو نجاح المؤسسة، وأن إسكات الإبداع هو إسكات المستقبل نفسه. ومن أعظم رموز القيادة، القدرة على التأثير الإيجابي الشخصي. الصديق الذي يجعلك أقوى أو صافياً، هو مثال على القائد الذي لا يقتصر تأثيره على السياسات، بل يتغلغل في النفوس. في المؤسسة، كل اجتماع، كل كلمة تشجيع، كل تصرف حكيم، يُنقل إلى الفريق، فيكبر تأثيره، ويصبح القيادة تجربة حياتية مشتركة، لا مجرد أوامر تصدر من الأعلى.

القيادة الحقيقية، إذن، هي مزج بين القوة والرحمة، بين الصمت والصوت، بين العطاء والعدل، بين الحزم واللين. في قلب المؤسسة الإفريقية، تعلم كل من في الفريق أن القيادة ليست منصبًا، بل رحلة شجاعة لصناعة الفرق، ورؤية المستقبل بأمل ووعي.وفي النهاية، ما يجعل هذه القيادة عظيمة حقًا هو أنها تزرع في النفوس حرية القرار، الطمأنينة الداخلية، وعزة النفس. ليس المهم أن يكون القائد مشهورًا أو ذا سلطة هائلة، بل أن يكون مصدر إلهام، ومرآة للقيم التي تريد المؤسسة أن تجسدها في كل فرد من أفرادها.كما قال أرسطو: “القيادة الحقيقية هي أن تصنع الناس قادرين على أن يقودوا أنفسهم.” هذا هو سر المؤسسات الناجحة، وسر الأمة التي تصنع نفسها من رحم التحديات.

في صمت المكتب الإفريقي، بين جدران بسيطة، ومع فريق متواضع الموارد لكنه غني بالروح، نجد القيادة التي تصنع الأمل، وتحفر البصمة في القلوب قبل الأرقام. القيادة التي تعلم أن كل كلمة، كل ابتسامة، كل توجيه حكيم، هو بذرة لحياة أفضل، ليس للقائد وحده، بل للجميع.وفي ختام هذه الرحلة، تظل الرسالة واضحة: القيادة ليست منصبًا، بل نفوذًا روحيًا، حرية في القرار، حكمة في الفعل، ورحمة في التأثير، وقوة في العطاء الصادق. حين يدرك القائد هذا، تصبح مؤسسته، مهما كانت مواردها محدودة، قوة لا يُستهان بها، وإلهامًا لكل من يلتقي بها، ومثالًا عالميًا للقيادة الرشيدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top