|
Getting your Trinity Audio player ready...
|
دخلت غزة إلى وجداننا كما تدخل القصيدة إلى قلب قارئها الأول: مدهشة، جارحة، صادقة، لا تُمنح إلا لمن يعرف أن الكلمات قد تتحول إلى دموع، وأن الدم قد يتحول إلى آية. حين قرأت الأبيات:
وما خاب من لله في السر ناجاهُ
ولا ضلّ من في دروب الصبر زكّاهُ
أدركت أن غزة ليست جغرافيا محدودة على شاطئ المتوسط، بل هي المعنى العميق لليقين، وهي الامتحان الذي يُعيد صياغة وعي الأمة، ويذكّرها أن الحق لا يموت، وأن الليل مهما طال فإن للفجر موعدًا مع الأرض والسماء، غزة اليوم قصيدة، لكن قصيدتها مكتوبة بمداد الشهداء، تُرتلها الأمهات حين يودّعن أبناءهن بدمعة وابتسامة، ويُتمّها الأطفال حين يرفعون كتبهم الممزقة على أطلال المدارس. في كل بيت آية، وفي كل شارع شاهد، وفي كل أنقاضٍ قصيدة لم تكتمل بعد.
قال “توماس كارلايل”: ليس الشجاعة أن تكون بلا خوف، بل أن تمضي في دربك رغم الخوف. وغزة تعلمنا هذا الدرس يوميًا، تمضي وهي تُدرك أن الموت يطوف حولها، لكنها ترى في الموت حياة، وفي الركام بذورًا لفجر جديد.
بين الشجن واليقين
الأبيات التي صدّرت بها النص ليست غريبة عن روح غزة:
وقد خضتَ بحرًا، فما الماءُ أدمى
ولا اللجُّ ألقى عليكَ الردى جُفاهُ
هنا البحر ليس بحر الأمواج فقط، بل بحر الحصار والخذلان، بحر الأمم الصامتة، بحر القلوب الميتة. ومع ذلك، فإن غزة تخوض البحر، لا تغرق ولا تُكسر، بل تخرج منه أنقى من اللؤلؤ، وأصلب من المرجان. إنها مدينة تصحو كل صباح لتتأكد أن شوارعها لم تُمحَ بعد، وأن أسماء الشهداء أزهار تُزهر في الجدران، وأن أذان الفجر لا يزال يعلو فوق الركام. هي الغربة التي وصفها الشاعر، لكنها غربة لا تُميت، بل تحيي وتُورث العزائم.
ولقد قال الشاعر محمود درويش: على هذه الأرض ما يستحق الحياة. وغزة هي البرهان الأوضح أن الأرض، مهما طال ظلمها، ستظل تُنبت رجالاً يصنعون للحياة معنًى لا تقدر عليه الجيوش.
غزة والجيل الجسور
وان غادرنا دنياكم الظالمة
فراياتنا ستظل خفاقة
مرفوعة بسواعد جيل جسور
غزة لم تعد مجرد حكاية الجيل الذي يُستشهد، بل هي رسالة إلى الأجيال القادمة: “كونوا كما كنا، بل أشد صلابة.” لهذا فإن أطفال غزة، وهم يلهون بين الخوف والانقاض، لا يُشبهون أطفال العالم؛ إنهم جيل الجسارة، جيل الفطرة الذي يتربى على وقع الانفجارات لكنه يبتسم للسماء. لقد أدركت غزة أن الأمم العظيمة لا تُصنع بالترف، بل بالصبر. وها هي تصوغ أجيالها على مرجل النار، ليكونوا شهودًا لا على الظلم فحسب، بل على لحظة الخلاص الكبرى.
قال نيلسون مانديلا: لا يمكن أن تُحرر شعبًا إذا لم تكن أنت نفسك حرًّا. وغزة بهذا الصمود تُحرر الوعي العالمي، وتعلّم البشرية أن الحرية تُولد من رحم التضحيات.
مرآة القلوب
غزة ليست قضية الفلسطينيين وحدهم، بل مرآة لقلوب العالم. من نظر إليها بعين الصدق، رأى فيها معنى الإنسانية؛ ومن أعرض عنها، كُشف له زيفه أمام نفسه.قال الإمام عليّ رضي الله عنه: “الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا”. وغزة تجعلنا ننتبه ونحن أحياء؛ تذكّرنا أن المال لا يُغني عن الحق، وأن الكراسي لا تَسند أصحابها إذا انحرفوا، وأن النصر وعدٌ رباني لا تملك قوة في الأرض أن تُبطله. إنها تكشف صمت المتخاذلين، وتُعري تواطؤ المستكبرين، لكنها في الوقت نفسه توقظ قلوب الأحرار، وتدعوهم أن يكونوا شهداء للحق، ولو بالكلمة والدعاء والموقف الشريف.
واجبنا تجاه غزة
هنا يطلّ السؤال الأعمق: ما واجبنا تجاه غزة؟ ليس المقال أدبًا بلا رسالة، ولا الشعر صدى بلا صرخة.
واجبنا أن نكون أوفياء لقضيتها، وأمناء على رسالتها، وأعوانًا لأهلها. ليس كلنا قادرًا على حمل السلاح، لكن كلنا قادر على حمل الكلمة، أو الدعاء، أو الموقف.
* واجبنا أن نُبقي غزة في قلوبنا حيّة، لا خبرًا عابرًا في نشرات العالم.
*.واجبنا أن ندعمها بما نملك: مالًا أو جهدًا أو علمًا أو حتى نشرًا للوعي.
* واجبنا أن نُعلم أبناءنا أن غزة ليست مكانًا بعيدًا، بل هي جزء من كرامتنا وعنوان أمتنا.
* واجبنا أن نحمل في صلواتنا اسمها كما نحمل أسماء أحبّتنا.
لقد قال محمد الفاتح: “لو علمت أني سأموت على أبواب القسطنطينية، ما توانيت لحظة عن الجهاد” وغزة اليوم هي القسطنطينية الجديدة التي تُحرّك القلوب وتختبر صدق الأمة: هل نحن أهل وفاء، أم أهل نسيان؟
وعد النور
فلا الحزنُ يُنسي، ولا الدمعُ يُطفئ
ضياءَ الذين قضوا والحقُّ مسراهُ
إنها ليست مجرد أبيات، بل هي تعريف لغزة. فالحزن عندها ليس هزيمة، والدمع ليس خضوعًا، والليل ليس نهاية. وعد الله باقٍ: “وكان حقًا علينا نصر المؤمنين.” غزة تُعلمنا أن القصيدة قد تكون جدارًا، وأن الدعاء قد يصير درعًا، وأن الدم إذا سُفك في سبيل الحق فإنه لا يموت، بل يتحول إلى نهر يفتح الطريق للأمة كلها. وغدًا، حين تشرق شمس الحرية، سيُقال: هنا كانت غزة، مدرسة العالم في الصمود، ومحراب الأمة في الإيمان، ومرثية الحزن التي تحولت إلى نشيد النصر. فهي القصيدة التي لا تُختم إلا باليقين، ولا تُتلى إلا بالدموع، ولا تُحفظ إلا في قلوب الأحرار.