حين رفرفت الراية البيضاء من قلب الطفولة

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

ليست كل لحظة في عمر المؤسسات متشابهة. هناك لحظات تمر كأرقام في تقرير، وهناك لحظات تظل محفورة في الضمير الجمعي، تُلهم، وتبقى، وتغدو رمزًا يتجاوز حدود الزمان والمكان. وما شهدناه في “روضة الريادة” للعام الثاني على التوالي لم يكن حدثًا عابرًا، بل ولادة قصة تستحق أن تُروى في كتب التربية، وأن تُنقش في ذاكرة الأمة، وأن تُرفع كراية بيضاء في سماء العالم.

صفر مخالفات. صفر شكاوى. صفر ملاحظات.
ثلاثة أصفار، قد تبدو في ظاهرها فراغًا، لكنها في عمقها امتلاء. أصفار ليست جمودًا رياضيًا، بل دوائر مغلقة تحفظ في جوفها سرّ الانضباط، سرّ الرضا، وسرّ الاكتمال. إن هذه الأصفار أشبه بحلقات ضوء متصلة، ترسم دائرة صفاء حول الطفولة، كأنها تعلن للعالم أن ثمة بقعة نقية وُجدت هنا، حيث لا خلل يتسرّب، ولا شكوى تُرفع، ولا ملاحظة تُقيّد. ولأن الجمال في أرقى صوره هو البساطة المتناهية، فقد جاءت هذه النتيجة بلغة الصفر، لتقول ما لا تقوله آلاف الصفحات. وكما قال الفيلسوف لاوتسه: “البساطة هي السموّ الأعلى.” وهنا، لم يكن السموّ في تعقيد الإجراءات، بل في صفاء الروح وصدق النية التي حوّلت الروضة إلى مرآة بيضاء.

إن جائزة “رايتي بيضاء”، التي تتأهل لها الروضة ضمن تسعٍ وأربعين مؤسسة فقط على مستوى قطر، ليست سوى تتويج خارجي لما هو متحقق داخليًا. الجائزة وسام، لكن الجوهر أعمق: أن الطفولة صارت في مكان آمن، أن التعليم يبدأ من بيئة لا تعرف التلوث الإداري أو التربوي، أن الغد يشرق من قلب بياضٍ نقي.

الطفولة تصنع الغد

يُقال إن الطفولة هي الصفحة الأولى في كتاب الإنسان، وما يُكتب فيها يبقى أثره حتى نهاية السطور. هنا يتجلى عمق المقولة الخالدة لـ نيلسون مانديلا: “التعليم هو السلاح الأقوى الذي يمكنك استخدامه لتغيير العالم.” فإذا كان التعليم سلاحًا، فإن الروضة هي المصنع الأول الذي يُصاغ فيه هذا السلاح، بيدين صغيرتين، بعينين لامعتين، بضحكة لا تعرف زيفًا. إن صفر المخالفات ليس شهادة انضباط فحسب، بل إعلان أن الطفل في هذه البيئة يتعلم قيمة النظام قبل أن يحفظ الحروف. وصفر الشكاوى ليس غيابًا للصوت، بل دلالة أن الصوت قد ذاب في لحن الرضا. وصفر الملاحظات ليس غيابًا للتفتيش، بل دليل أن التفتيش وجد اكتمالًا يُدهش ويُثلج الصدر. ولعل أرسطو قد سبقنا حين قال: “نحن ما نكرر فعله. التميز إذن ليس فعلًا، بل عادة.” وهذا ما يميز “روضة الريادة”: أن التميز لم يكن إنجازًا عابرًا في موسم واحد، بل عادة تكررت لعامين متتاليين، عادةً يومية تبدأ مع أول طفل يدخل بابتسامته، وتنتهي مع آخر ولي أمر يغادر مطمئنًا.

الرسالة إلى أولياء الأمور

أيها الأولياء الكرام، أنتم الذين وضعتم أثمن ما تملكون بين أيدينا. إن هذه النتيجة لم تكن لتتحقق دون ثقتكم، ولا كان لهذا البياض أن يكتمل لولا أنكم آمنتم أن الروضة ليست مبنىً يستقبل الأطفال فحسب، بل شريك في التربية، وامتداد للأسرة، وبيت ثانٍ يربي كما يُعلم. إننا إذ نرفع اليوم هذه الراية البيضاء، فإننا لا نرفعها باسم مؤسسة وحسب، بل باسمكم جميعًا. كل ابتسامة طفل، كل خطوة واثقة في أروقة الروضة، كل ضحكة صدرت من فناء اللعب، كانت سطرًا في هذا التقرير الأبيض. ولو أن للتقارير قلوبًا، لنبض هذا التقرير باسمكم أنتم.

الصفر كقيمة روحية

قد يظن البعض أن الصفر فراغ، لكنه في جوهره اكتمال. الصفر يرمز إلى الدائرة التي لا بداية لها ولا نهاية، إلى الكمال الذي لا يُضاف إليه شيء ولا يُنتقص منه. وهكذا كان تقرير الروضة: دائرة كاملة من النقاء. وكما قال غاندي: “في كل مرة تواجه فيها خصمًا، قهره بالسلام.” وهنا، قهرت الروضة احتمالات القصور بالالتزام، احتمالات الشكوى بالرضا، احتمالات الملاحظة بالكمال.

حين تنطق الجدران

لو نطقت جدران الروضة، لقالت: علّمنا الأطفال أن اللعب مسؤولية، وأن البراءة درس، وأن الضحكة عهد. ولو تحدثت دفاتر الأطفال، لقالت: لم نُكتب بالحروف وحدها، بل قُدنا لنكون مرآةً لبياض القلوب. ولو تكلمت الساحات، لقالت: كل خطوة صغيرة كانت مسيرة نحو الغد.

ما أبعد أثر الراية البيضاء

هذه الراية البيضاء ليست قماشًا مرفوعًا على سارية، بل قيمة مرفوعة في الضمير. إنها ليست جائزة لروضة فحسب، بل رسالة للعالم: أن التربية يمكن أن تكون نقية، أن الطفولة يمكن أن تُصان، أن الغد يمكن أن يبدأ من مكان يرفرف فيه البياض.
قال المتنبي: “إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ … فلا تقنعْ بمـا دون النجوم.”
وقد غامرت روضة الريادة في أشرف مغامرة: أن تراهن على الطفولة. واليوم، ها هي لا تقنع بما دون النجوم، بل ترفع راية بيضاء تلمع ككوكب في سماء الدوحة، لتقول: من هنا يبدأ الغد.

وختامًا: أيها العالم، أيها الآباء والأمهات، أيها السائرون في درب التربية، تأملوا هذه القصة: أن الصفر قد يكون أبلغ من المئة، وأن البياض قد يكون أعمق من الألوان، وأن الطفولة حين تُصان في بيئة نقية، فإن المستقبل كله يُصان.هذه ليست قصة روضة عابرة، بل لوحة عالمية ممهورة بدموع الفرح، بابتسامات الأطفال، بقلوب الأمهات والآباء، وبضمير معلمات ومعلمين أقسموا أن التربية ليست وظيفة، بل رسالة.
ومن قلب الدوحة، ترفرف راية بيضاء لا تُعلن استسلامًا، بل تُعلن انتصارًا للبراءة. إنها دعوة مفتوحة إلى العالم كله: من يصنع الطفولة، يصنع الغد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top