حين رفرفت الراية البيضاء من قلب روضة الريادة

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في سجلات المؤسسات، كثيرًا ما تتراكم الأرقام بلا معنى، لكن قليلًا ما تتحول الأرقام إلى رموز، إلى قصائد مكتوبة بمداد العمل والضمير. وهنا، من قلب “روضة الريادة”، لم يكن الرقم مجرد إحالة إلى إحصاءٍ أو تقرير، بل ارتقى إلى مقام الرسالة، إذ تجلّى الصفر في أبهى معانيه:
• صفر مخالفات… ليس فراغًا من الخطأ، بل امتلاءً بالانضباط، وشهادة نزاهة لا تمنحها اللوائح وحدها، وإنما تمنحها الضمائر الحية.
• صفر شكاوى… ليس غيابًا للصوت، بل امتلاءً بالرضا، وتوقيعًا من أولياء الأمور على دفتر الثقة والطمأنينة.
• صفر ملاحظات… ليس سهوًا من الرقابة، بل اكتمالًا مدروسًا، حيث تتقاطع الجدية مع الشفافية، وتلتقي الدقة مع جمال الروح.

هكذا تحولت الصفرية الثلاثية إلى لوحة بيضاء ناصعة، ترفرف لا كراية استسلام، بل كراية صفاء، نقاء، وسمو، تفتح الطريق إلى جائزة “رايتي بيضاء”، بين تسعٍ وأربعين روضة فقط على مستوى قطر.ولأن المعاني تسبق الجوائز، فإن هذا التتويج ليس غايةً في ذاته، بل شاهدًا على أن الريادة ليست صدفة تُصادف المؤسسات، بل عادة تصنعها القلوب العامرة بالإخلاص. ولعل الفيلسوف أرسطو صدق حين قال: “نحن ما نكرر فعله؛ التميز إذن ليس فعلًا، بل عادة.”

إن ما تحقق في روضة الريادة لم يكن لمرّة عابرة، بل للعام الثاني على التوالي، كأنها تؤكد أن الإتقان لا يزول بزوال موسم، ولا يتوارى خلف جدار ظرف، بل يتجدد كما تتجدد أنفاس الأطفال كل صباح. ولو تأملنا في المعنى العميق لهذا الصفر، لوجدنا أنه ليس دائرة فارغة، بل دائرة مكتملة، تحتضن في جوفها كل ما لم يُسجَّل من مخالفات، كل ما لم يُسمع من شكاوى، كل ما لم يُدوَّن من ملاحظات، وكأنها تقول: في هذا الصمت شهادة، وفي هذا البياض حياة. وليس عجيبًا أن نستلهم من كلمات المهاتما غاندي حين قال: “في كل مرة تواجه فيها خصمًا، قهره بالسلام.” وهنا، واجهت الروضة احتمالات القصور، فقهرتها بالالتزام. واجهت احتمالات الشكوى، فقهرتها بالرضا. واجهت احتمالات الملاحظة، فقهرتها بالكمال. في الدوحة، حيث تُحاك الرؤى الكبرى لمستقبل التعليم، ترفرف راية بيضاء من قلب الطفولة، لتقول: من هنا يبدأ الغد. من لوحٍ صغير كتبت عليه يد طفل، ومن معلمةٍ تراقب بعين الأم، ومن إدارةٍ تعي أن كل لحظة في حياة الطفل بذرة في حقل المستقبل.

وهنا، تكتسب مقولة نيلسون مانديلا معناها الجديد: “التعليم هو السلاح الأقوى الذي يمكنك استخدامه لتغيير العالم.” فالتغيير يبدأ من حيث لا يلتفت كثيرون: من الروضة، من ذلك العمر الذي يُظن أنه لعب ولهو، بينما هو في الحقيقة أعظم تأسيس لمجتمع راشد. الروضة لم تكن مجرد مؤسسة تعليمية؛ كانت قدوة مؤسسية. قدوة تقول لبقية المؤسسات: بالإمكان أن تنجح بلا شكاوى، أن تنضبط بلا مخالفات، أن تكتمل بلا ملاحظات. قدوة تُثبت أن الرقابة ليست خصمًا، وإنما شريك يُسجّل الكمال حين يراه. ولو قُدِّر للجدران أن تنطق، لقالت: علّمتنا الطفولة أن اللعب مسؤولية، وأن الضحك درس، وأن البياض عهد. ولو قُدّر للدفاتر أن تشهد، لقالت: كتبنا على صفحاتنا ليس الحروف وحدها، بل قيم الريادة. إن قصة “روضة الريادة” لا تُكتب في تقارير الإدارات وحدها، بل تُحفر في الذاكرة الوطنية: أن الطفولة أمانة، وأن الأمة التي تصون بياضها منذ الصغر، قادرة على أن تحمل الراية في الكبر.

ولهذا، فإن هذه الراية البيضاء التي رفرفت في سماء الدوحة لم تكن قطعة قماش على سارية، بل قيمة مرفوعة في الضمير الإنساني. قيمة تذكّرنا بقول المتنبي: “إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ… فلا تقنعْ بمـا دون النجوم.” لقد غامرت الروضة في شرفٍ مروم، وكتبت قصتها بين النجوم، لتقول لنا جميعًا: من يصنع الطفولة، يصنع الغد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top