|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي
المقدمة
منذ أن خط الإنسان أول خطوة على أرض هذا الكوكب، بقي في قلبه سؤال لا يخبو: كيف أمد يدي لغيري؟
في كل حضارة، وفي كل دين، وفي كل وجدان، كانت جذوة الخير كامنة، تضيء في أزمنة العتمة. إن العمل الخيري ليس نشاطًا عابرًا ولا مؤسسة قائمة، بل هو روح إنسانية ممتدة، تشبه النهر، قد يضيق مجراه أحيانًا، لكنه لا ينضب. اليوم، ونحن نعيش زمن التحولات الكبرى- أزمات اقتصادية، تغيرات مناخية، حروب ناعمة وخشنة، ثورة تكنولوجية غير مسبوقة -يصبح السؤال أكثر إلحاحًا: هل يكفي أن نُطعم جائعًا أو نكسو عاريًا؟ أم أن واجبنا أن نصنع منظومة تُبقي كرامة الإنسان مصونة فلا يجوع أصلًا، ولا يعرى؟ قال غاندي: “أعظم اختبار لروح الأمة هو كيف تعامل أضعف أفرادها.”
ونحن نقول: أعظم اختبار لقيادة العمل الخيري هو أن يتحول من رد فعل إلى صانع مستقبل.
المحور الأول: فلسفة جديدة للعمل الخيري
لقد تعوّدنا أن نُعرّف العمل الخيري بالرؤية والرسالة، ثم نُسقط SWOT، ثم نُعيد تدوير الأولويات. لكن الزمن تجاوز هذه النماذج الجامدة.العمل الخيري اليوم بحاجة إلى فلسفة جديدة: فلسفة ترى المحتاج ليس “ملفًا” يُعالج، بل إنسانًا له حلم وحق في أن يكون مساهمًا في صناعة العالم. إنها نقلة من “إطفاء حرائق” إلى “زرع غابات من الكرامة”.
المحور الثاني: البعد الرباني والبعد الحضاري
في تاريخنا، لم يكن الوقف مجرد مال يُصرف، بل كان نظامًا حضاريًا يصنع الجامعات والمستشفيات وطرق القوافل. لقد فهم أسلافنا أن الخير ليس صدقة عابرة، بل مؤسسة تعمّر الأرض. ابن خلدون في مقدمته أشار إلى أن العمران البشري لا يزدهر إلا إذا كان فيه تضامن اجتماعي يحفظ الكرامة. أما اليوم، فالتحدي أن نعيد لهذه الروح بعدها الرباني: أن يكون الخير طريقًا إلى الله، وفي الوقت نفسه بعدًا حضاريًا: أن نبني به إنسانًا قادرًا على العطاء.
المحور الثالث: تحديات المستقبل والسيناريوهات الجديدة
لم يعد يكفي أن نتحدث عن “إغلاق الجمعيات أو فتحها” السيناريوهات الحقيقية أخطر وأعمق:
1. السيناريو الرقمي: كيف نُدخل الذكاء الاصطناعي والبلوك تشين ليكون التبرع شفافًا، سريعًا، ومؤثرًا؟ كيف نستثمر التكنولوجيا لا كأداة فقط، بل كجدار يحمي الثقة؟
2. السيناريو المناخي: الكوارث البيئية القادمة ستخلق ملايين المستضعفين. هل مؤسساتنا مهيأة أن تكون جزءًا من الحل، لا مجرد ردة فعل؟
3. السيناريو الجيوسياسي: الضغوط القانونية والتمويلية ستزداد، لكن العمل الخيري إذا بُني على الشفافية والحوكمة سيصبح قوة ناعمة، لا عبئًا على الدول.
4. السيناريو الحضاري: إما أن نستعيد دورنا كمصدر إلهام عالمي، أو نذوب في هوامش التاريخ.
المحور الرابع: نموذج المؤسسة الخيرية المركبة
أقترح نموذجًا ثلاثي الدوائر:
1. دائرة الإغاثة العاجلة: لا بد منها لحماية أرواح الناس في لحظة الخطر.
2. دائرة التنمية والتمكين: تعليم، تدريب، استثمارات صغيرة، خلق فرص عمل.
3. دائرة الاستباق الاستراتيجي: أبحاث، شراكات دولية، ابتكار حلول للمشكلات قبل وقوعها.
وبذلك، تتحول الجمعية من “موزّع مساعدات” إلى “مُولّد حلول”.
جزء من التبرعات لا يُصرف فورًا، بل يُستثمر في أوقاف وصناديق تنموية، لتبقى المؤسسة حيّة حتى لو انقطعت التبرعات.
المحور الخامس: أولويات العمل الجديد
1. إعادة تعريف المانحين: المانح ليس “ممولًا”، بل “شريك في صناعة الأثر”.
2. إعداد القيادات الشابة: نحتاج إلى جيل يقود العمل الخيري بعقلية ريادية رشيقة، لا بعقلية إدارية بيروقراطية.
3. تحالفات عابرة للقطاعات: شراكات مع الجامعات، مراكز الأبحاث، المؤسسات البيئية، شركات التكنولوجيا.
4. قياس الأثر الحقيقي: ليس بعدد البطانيات الموزعة، بل بمؤشرات مثل: الكرامة، الأمل، جودة الحياة، الاستقلال الاقتصادي للمستفيد.
الخاتمة: النداء الكبير
قد تُقيدنا القوانين، قد تُحاصرنا الأزمات، قد يُحرمنا العالم من التمويل، لكن لا أحد يستطيع أن ينتزع منّا شرف الكلمة الطيبة، ولا أن يُطفئ نور الأمل الذي نحمله. إننا بحاجة اليوم إلى ميثاق عالمي للعمل الخيري – ميثاق يعلنه القادة ويوقعه المانحون والمؤسسات، ليكون وثيقة تُلزمنا أمام الله وأمام الإنسانية بأننا لسنا مجرد عابري سبيل، بل صُنّاع طريق. فلنكن، نحن، الجيل الذي ينقل العمل الخيري من حدود الإغاثة إلى رحابة صناعة الأمل.