حين شدّ القائد على يده

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

لم يكن اللقاء عابرًا، ولا الحوار كلماتٍ تتناثر على مقاعد من خشب. كان أشبه بحدثٍ خفيٍّ رتّبته الأقدار لتضع أمام التاريخ مشهدًا بسيطًا في صورته، عظيمًا في أثره: قائد عملاق يجلس قبالة رجل مشتت، تائه بين محاور كثيرة، تتقاذفه الرغبات كما تتقاذف الرياح أوراق الخريف.

جلسا متقابلين. كان الصمت في البداية أثقل من الكلام، غير أن القائد، بوقاره ورحابته، لم يترك لهذا الصمت أن يتحول إلى جدار، بل أطلّ ببسمته التي تحمل معنى الأمان والاحتواء. نظر إلى الرجل المشتت نظرة الأب حين يرى ابنه الذي أضاع البوصلة، لكنه لم يفقد الأمل في قدرته على العودة.

قال له القائد بصوتٍ رخيم، فيه حزم المحبة لا قسوة السلطان: “يا أخي، إنني أراك تجري في كل طريق، وتفتح لنفسك ألف باب، ولكنك لا تدخل منها إلا خطوة، ثم تتركها لتبحث عن أخرى. هكذا تستهلك روحك ووقتك، وتظن أن كثرة المحاور ستعطيك عظمة، لكنها في الحقيقة تسرقك من نفسك.” ارتجف قلب المشتت. كان يدرك أن ما سمعه ليس مجرد نصيحة، بل كلمة وزنها أكبر من أي إنذار أو عتاب. حاول أن يتحدث، لكن صوته انكسر: “أعرف يا سيدي… غير أني لا أستطيع أن أقول لا، كل فرصة أظنها النجاة، وكل باب أراه خلاصًا، فأركض وأركض… حتى صرت لا أدري مَن أنا ولا أين أقف.”

ابتسم القائد ابتسامة من يفهم جراح الروح، ثم مدّ يده القوية، وشدّ على يده قائلًا: “ركز. صدقني، لو جمعت قواك في محور واحد، لبلغت النجوم. فالنجم لا يضيء لأنه في كل مكان، بل لأنه ثابت في مكانه، مركز نوره، يعرف وجهته.” كانت الكلمة أشبه بمفتاح يفتح أقفال القلب. لم تكن محاضرة طويلة، ولا برنامجًا من مئة بند. مجرد كلمة واحدة – “ركز” – لكنها خرجت من قلب قائد حمل خبرة السنين، ونقاء النية، وصدق التجربة.

لم تمر سوى أسابيع، حتى بدأت ملامح التحول. الرجل الذي كان يتناثر بين أوراق كثيرة بدأ يجمعها في ملف واحد. الرجل الذي كان يجري وراء ألف فكرة صار يمشي بثبات خلف فكرة واحدة. والأعجب أن مَن حوله بدأوا يلاحظون: هيبته تكبر، إنجازه يثمر، وصوته يتضح.بعد عام، لم يعد ذلك الرجل مجرد موظف مشتت، بل صار نجمًا في مؤسسته، يُشار إليه بالبنان، ويُنظر إليه كنموذج. وكلما سألوه: “ما سر هذا التحول؟” كان يبتسم ويقول: “كلمة واحدة… شدّ القائد على يدي وقال: ركز.”

هذا المشهد البسيط ليس مجرد قصة فردية. إنه رمز للقيادة الحقيقية، تلك التي لا تُقاس بكم القرارات ولا حجم الأبنية، بل بقدرتها على إحياء الإنسان من داخله. القيادة التي تتجاوز لغة الأوامر لتصل إلى لغة الإلهام. ابن خلدون قال يومًا: “الملك قائم بالإنسان، والإنسان قائم بالعمران.” والمعنى أن الأمة لا تُبنى إلا حين يُبنى الإنسان. وهذا بالضبط ما فعله القائد العملاق مع المشتت: لم يوبخه على فشله، بل أيقظ فيه ما يملك من طاقة كامنة.أما بيتر دركر، فقد لخّص جوهر القيادة بقوله: “القائد هو من يحوّل الإمكانات إلى إنجاز.” وهذا ما فعله القائد العملاق هنا: لم ير في التشتت إلا إمكانًا، وفي الانكسار إلا فرصة للنهوض.

قد يقول قائل: ما الفرق بين قائد عملاق وآخر عادي؟ الفرق في القدرة على رؤية الجوهرة داخل الحجر. القائد العادي يرى رجلًا مشتتًا فيتركه ليتآكل أو يسقط. أما القائد العملاق فيرى خلف التشتت شرارة يمكن أن تضيء، فيمد يده ليحميها من الريح حتى تتحول إلى نار هادئة، ثم إلى شمسٍ تسطع. لقد كان سقراط يقول لتلاميذه: “اعرف نفسك.” والقائد العملاق لم يقل شيئًا آخر، سوى أن جعل المشتت يعرف نفسه من جديد، ويكتشف أن ما يحتاجه ليس كثرة الطرق، بل وضوح الطريق.

ولعل أجمل ما في القصة أن التحول لم يكن في الرجل وحده، بل في المؤسسة كلها. فحين يسطع نجم في سماء العمل، تشرق معه طاقات الآخرين، وتصبح بيئة المؤسسة أكثر إلهامًا. هكذا يُحدث القائد الحقيقي أثرًا مضاعفًا: يغيّر فردًا، فيغيّر معه محيطًا كاملًا. فالقائد العملاق هو الذي يدرك أن القيادة ليست منصبًا، بل رسالة. وليست شهرة، بل شهادة. وليست سعيًا وراء التصفيق، بل أمانة تُحمل على الكتف. ولهذا حين شدّ على يد المشتت، لم يكن يغيّر حياته فقط، بل كان يُعلّم درسًا خالدًا: أن الإنسان حين يركز، يبدع، وحين يبدد جهده، يذبل.

في ختام المشهد، نعود إلى تلك اللحظة الأولى: يد القائد القوية تشد على يد الرجل المشتت، وكلمة واحدة تسقط كالمطر على أرض عطشى: “ركز.” هذه الكلمة، في بساطتها، تختصر فلسفة كاملة. إنها تذكّرنا أن الوقت ليس بطول المدة، بل بحسن الاستثمار والأولويات. تذكّرنا أن العظمة ليست في كثرة المشاريع، بل في وضوح الرسالة. وتذكّرنا أن كل نجم في السماء لم يكن يومًا مبعثرًا، بل كان ثابتًا في مداره، وفي ثباته كان سطوعه.

وهكذا يا قارئي العزيز، نخرج من هذا الحوار الرمزي بدرس: قد لا تحتاج حياتك إلى مزيد من الطرق المفتوحة، بل إلى يد صادقة تشد عليك وتهمس في أذنك: ركز. فإن وجدت قائدًا عملاقًا كهذا، فاحمد الله. وإن لم تجده، فكن أنت ذلك القائد لنفسك ولغيرك. فالقيادة في جوهرها ليست أن تسير في المقدمة، بل أن توقظ في الآخرين قدرتهم على الوصول. اللهم اجعلنا ممن يحملون الأمانة برفق، ويشدون على أيدي المشتتين بحب،فيتحولون نجومًا في سماء العمل، وشموعًا في دروب الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top