حين تتكلّم التجارب على ألسنة القيادات

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

للاستماع إلى النسخة الصوتية من هذا المقال

في القاعة الرمزية التي غادرناها في المقال الأول، حيث تكلمت “القيادة الرشيدة” في مواجهة “القيادة الأخرى”، كان السؤال معلقًا: هل ما قيل هناك فلسفة حالمة أم حقيقة واقعية؟ وهل التاريخ يحتفظ بمكان للصوت العميق وسط صخب الصور والواجهات؟ الإجابة لم تأتِ من خطاب ولا من خطيب، بل جاءت من تجربتين: مؤسسة آسيوية في التسعينات، ومؤسسة إفريقية في 2007. هاتان التجربتان، على بُعد قارتين وزمنين، أثبتتا أن القيادة ليست زينة للمشهد، بل دم في العروق.

القصة الآسيوية: حين تسبق الرؤية الزمان

في منتصف التسعينات، كانت العولمة تطرق أبواب آسيا بقوة: استثمارات تتدفق، وشركات عابرة للقارات تبحث عن موطئ قدم، وأسواق تترنح بين الفرص والأزمات. وسط هذه الفوضى، وُلدت مؤسسة تعليمية – اجتماعية صغيرة. لم يكن لها مبنى فخم، ولا ميزانية كبرى، لكن كان لها ما هو أعظم: قيادة تحمل وعيًا بأن كل نجاح زائل إن لم يتجذر في وعي الإنسان. ركزت المؤسسة منذ يومها الأول على بناء محتوى معرفي مختلف، لا يكرر المناهج المستوردة، بل يحاول أن يصنع عقلًا يفكر، لا عقلًا يردد. لم تبهرها الأضواء، ولم تركض وراء الصحف، بل كانت مشغولة بالقرى النائية، بالمدارس المتواضعة، بالمعلمين الذين يقفون بلا دعم في أقسام ضيقة. بعد عقد واحد فقط، حين انهارت مؤسسات كثيرة كانت تتزين بالبريق، كانت هذه المؤسسة تخرج أجيالًا من الشباب الذين دخلوا ميادين الاقتصاد والاجتماع والسياسة بروح جديدة. لم يذكر الإعلام اسمها كل يوم، لكن الواقع كان يشهد لها في كل شارع.

وهنا نتذكر قول بيتر دركر،: “الثقافة تأكل الاستراتيجية على الإفطار.” لقد أدرك قادتها أن الثقافة المجتمعية أهم من أي خطة قصيرة المدى، وأن القيادة التي تبني الإنسان أعمق أثرًا من أي خطة مالية أو تسويقية.

التجربة الإفريقية: الأمل يولد من رحم الحاجة

عام 2007، في بلد إفريقي مثقل بالفقر والصراعات، ظهرت مؤسسة صحية لم يراهن أحد على بقائها عامًا واحدًا. ميزانية هزيلة، فريق طبي ناشئ، ومستشفى صغير في أطراف مدينة مزدحمة. لكن القيادة هناك لم ترَ في العجز عذرًا، بل رأت فيه بداية الطريق. قال مؤسسها يوم الافتتاح: “لسنا هنا لنكتب تقارير، نحن هنا لننقذ حياة.” لم تكن كلمات للاستهلاك، بل كانت عقيدة تحكم العمل.بدلًا من سباق المكاتب الوثيرة، اتجهت المؤسسة نحو القرى المهملة: عيادات متنقلة، قوافل علاجية، وحملات توعية من بيت إلى بيت. لم يكن هناك مال كافٍ للتسويق، لكن كان هناك رأسمال لا ينفد: ثقة الناس. خمس سنوات فقط، كانت كافية لتتحول هذه المؤسسة إلى شبكة صحية تخدم أربع مناطق، وتُعرف بأنها الملاذ الأول للمرضى الفقراء. والأعجب أن توسعها لم يكن بفضل التمويل الخارجي، بل بفضل التزامها العميق بخدمة الإنسان.وهنا يحضرنا صوت العقاد الذي قال: “الزعامة في حقيقتها غلبة على النفوس لا على الأجساد.” لقد غلبت هذه المؤسسة على نفوس مجتمعها بالصدق والثقة، لا بالقوة والمال، فاستقرت في قلب الناس قبل أن تستقر على الأرض.

بين القربى والزيف

إن قارنا المؤسستين بغيرهما ممن شاركهما البدايات، لوجدنا المفارقة جلية. في آسيا، ظهرت مؤسسات تعليمية رنانة الأسماء، لكنها انطفأت لأن قيادتها انبهرت بالكاميرات. وفي إفريقيا، تأسست منظمات كثيرة بتمويل أضعاف، لكنها تلاشت لأن قيادتها انشغلت بالواجهة بدل الجوهر. أما المؤسستان، فقد بقيتا. لأن قيادتهما لم تختر أن تكون “لحظة”، بل “مسيرة”. لم ترضَ أن تكون صورة، بل أصرت أن تكون جسرًا. وهنا يتردد صوت الرافعي: “إن لم تزد على الحياة شيئًا، فأنت زائد عليها.” لقد أضافت المؤسستان للحياة معنى، ولذلك استحقتا البقاء، في حين أن غيرهما عاش زائدًا، ثم تلاشى.

دروس للتاريخ
1. القيادة ليست كرسيًا بل مسؤولية، فالقيادة في المؤسستين لم تكن بحثًا عن سلطة أو شهرة، بل عن أثر يتوارثه المجتمع جيلًا بعد جيل.
2. الثقة رأس المال الحقيقي، في إفريقيا، لم يكن المال هو الذي صنع التوسع، بل ثقة الناس. في آسيا، لم تكن المباني هي التي صنعت الخلود، بل العقول التي تغيّرت.
3. الأثر الصامت أبقى من التصفيق، عشرات المؤسسات صفق لها الإعلام ثم نسيها، بينما المؤسستان صنعتا أثرًا لا يحتاج كاميرا ليوثّقه، بل حياة الناس نفسها صارت الشاهد

أثر ممتد لا يُمحى

اليوم، وبعد مرور عقدين وأكثر على المؤسسة الآسيوية، وعقد ونصف على الإفريقية، ما زال أثرهما يتسع. لم تعودا مجرد مبادرات محلية، بل أصبحتا مدارس رائدة في معنى القيادة الرشيدة. كل طالب يبتكر، كل مريض يشفى، هو شاهد حي على أن القيادة ليست ترفًا، بل قدرًا يحدد مصائر الأمم. ولعل القاعة الرمزية التي شهدت حوار “القيادة الرشيدة” مع “القيادة الأخرى” تعود لتتجسد هنا، في قاعتين واقعيتين: إحداهما في آسيا، والأخرى في إفريقيا. القاعة الأولى شهدت ميلاد فكر يزرع، والثانية شهدت ميلاد عطاء يداوي. كلاهما برهن أن الجوهر يسبق المظهر، وأن القيادة التي تختار العمق تكتب اسمها في روح الناس، لا على جدران المكاتب

وختامًا، التاريخ لم يخلّد الذين مروا كالبرق، بل الذين صنعوا فجرًا لا يغيب. والمؤسستان اللتان ولدتا في آسيا وإفريقيا ليستا قصتين محليتين، بل هما شهادة إنسانية عالمية على أن القيادة ليست تلاعبًا بالصور، بل بناءً للنفوس. من يقرأ قصتهما يدرك أن الأثر لا يُشترى، ولا يُزيّف، بل يُصنع بالصبر، بالنية، وبالإيمان بأن الإنسان هو الثروة الحقيقية. وهكذا، يصبح الدرس الأخير: أن القائد الذي يريد الخلود لا يبحث عن اسمه في الصحف، بل في القلوب. وأن المؤسسة التي تريد البقاء لا تسأل: “كم لدينا من مال؟” بل تسأل: “كم غيّرنا من إنسان؟”هذا هو الفارق بين قيادة صنعت جسرًا، وأخرى ظلت صورة على جدار، سرعان ما أكلها الغبار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top