حوار بين النفس والمدينة

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

للاستماع إلى النسخة الصوتية من هذا المقال

لم أنزل السوق منذ سنوات.طوال هذه الأعوام، اكتفيت بتوصيل الأهل والأبناء، وأقضي ساعاتي في المسجد، بين القراءة والكتابة والعمل، منتظرًا لحظة صمتٍ يتسلل فيها الوعي بين الصفحات وبين الصلوات. لكن البارحة، كان عليّ النزول. لم يكن نزولًا اعتياديًا، بل رحلة غير مخطط لها، مهمة بسيطة: البحث عن شيء طلبه صديق.كانت المفاجأة مذهلة. لم أعد أعرف السوق كما عرفته من قبل. أفواج وأفواج من الناس تتوزع على المطاعم، تتجول، تبيع، تنادي المارة، تتحدث، تضحك، تفكر، تحزن. كان كل فرد لوحة، كل حركة قصيدة، وكل نظرة رسالة.

حين دخلت السوق، شعرت وكأنني أقرأ روايةً لم تُكتب بعد.كان المشهد نابضًا بالحياة، لكن كل حركة فيه تحمل معنىً أعمق.المرأة التي تنادي ابنتها على بعد خطوات، صوتها يحمل القلق والحب في آنٍ واحد.
الرجل الذي يقف أمام المحل ويضحك مع زبونه، ضحكته لم تكن مجرد صوت، بل لغة حياة تعكس فرحًا صغيرًا وسط صخب العالم.
الصبي الذي يسير متكئًا على يده، عينيه تبحثان عن شيءٍ ما، كان يتحدث بصمت مع نفسه، كما لو أنه يقايض العالم بما في قلبه.

قالت نفسي، بصوت خافت: “انظر، كل إنسان هنا يعيش قصته الخاصة، وكل قصة تمثل فصلًا في رواية الكون، وأنت مجرد راوي صامت يمر بين الفصول.” المسافة بين الملاحظة والتأمل لم تكن بعيدة.
كل خطوة في السوق أصبحت درسًا في الفهم الإنساني.كيف يمكن للمدينة أن تجمع كل هذه الاختلافات، وكل هذه المشاعر المتنافرة، في مكان واحد؟ كنت أرى الحزن والفرح، الضحك والصمت، العجلة والبطء، كأنهم ألوان لوحة فنية عظيمة، لوحة لا يُسجلها التاريخ إلا بروح الراوي الذي يرى ما وراء المشهد.

في زاوية من السوق، جلست مجموعة من الشباب حول طاولة صغيرة، يتبادلون حديثًا ضاحكًا، لكن عيونهم كانت تخفي خوفًا من المستقبل، أو ربما حلمًا غير مكتمل.
كان الأمر مذهلًا: المظاهر تخفي الحقيقة، والحقيقة تظهر فقط لمن يراقب بعمق. تذكرت سنوات الخلوة في المسجد، حين كنت أقرأ وأكتب، وأراقب نفسي.اليوم، السوق أعاد لي نفس المراقبة، لكنه أضاف إليها حياة الآخرين، فأصبح التأمل مضاعفًا، مزدوجًا: تأمل داخلي وتأمل خارجي في الوقت ذاته.

بين المارة، امرأة تحمل حقيبة صغيرة، تمشي بسرعة، لكنها تتوقف بين حين وآخر لتبتسم لطفل يركض بجانبها. لم أستطع منع نفسي من التفكير: كم من مشاعر خفية تُخفيها الأجساد أثناء السفر بين الأماكن؟
النفس، كما لاحظت، هي الرفيق الصامت. هي التي تروي ما لا يُقال. هي التي تجمع كل هذه التفاصيل الصغيرة، وتحولها إلى قصصٍ تعيش فينا، حتى بعد أن نغادر المكان.كان هناك رجلٌ ينادي المارة للشراء، صوته عالٍ، لكنه لم يكن يزعج، بل كان يذكّر بما يعرفه كل إنسان: أن الحياة مستمرة، وأن كل فرد يسعى لعيش يومه. ضحكتُ في قلبي: كم نحن جميعًا ممثلون في مسرحٍ كبير، دون أن نعلم أننا جزء من لوحة متكاملة. قالت نفسي:“انظر إلى الفرق بين من يبيع وبين من يشتري، بين من ينادي وبين من يمر. كل واحد منهم يعيش دوره، وكل دور مهم، حتى ولو بدا تافهًا في الظاهر.”

في زاوية أخرى، امرأة حزينة، تنظر إلى طفلها بعينين مبتلتين، وكأنها تقرأ المستقبل في وجنتيه، تحلم له بالخير، وتخشى عليه من الشر.
كم من قصصٍ مماثلة نعيشها يوميًا، ولا نحكيها إلا في صمتنا؟ التأمل هنا لم يكن مجرد ملاحظة، بل حوار عميق بين النفس وما حولها. كل حركة، كل ضحكة، كل دمعة، كانت لغة لا يفهمها إلا من صمت وراقب بعمق.بينما كنت أمشي، رأيت فتىً صغيرًا، يقف أمام متجر الحلوى، عينيه تتأمل الألوان، يده ممتدة، لكنه لم يتجرأ على اختيار شيء، قلتُ في نفسي: “كم نحن مثل هذا الطفل أحيانًا، نتطلع إلى الحاضر والمستقبل، لكننا لا نجرؤ على أخذ ما نحتاجه حقًا.” كانت اللحظة بسيطة، لكنها حملت معنىً كبيرًا: السوق، بهذه الحياة الصاخبة، يعكس ما في داخلنا من خوف، رغبة، تأمل، وحلم.

ثم مررت بمجموعة تجلس على مقعد خشبي، يتبادلون الطعام والضحك. كان في وجوههم حياة حقيقية، بلا أقنعة.قلتُ لنفسي:
“كم من الناس يعيشون الحياة كما هي، وكم من الناس يعيشونها كما يريد الآخرون أن يروها؟” وهنا شعرت أن السوق، بكل صخبه وفوضاه، هو مدرسة في الإنسانية، حيث تلتقي الأرواح بصمتها وصخبها، حيث يتعلم الإنسان أكثر عن نفسه من أي كتاب أو مسجد.
توقفت لحظة، تنفست بعمق، واستسلمت لصمت نفسي الذي أصبح أكثر وضوحًا وسط هذا الزحام.
كانت روحي تقول:“انظر إلى كل شيء بعينيك الداخلية، فهذه اللحظة لن تتكرر. كل ابتسامة، كل دمعة، كل صوت، هو درس لم تُدرسه الحياة إلا هنا.”

حين انتهت مهمتي في السوق، مررت على أهل الراحل الذين تصطفوا لتلقّي العزاء في نفس المكان الذي كنت أتجول فيه سابقًا.
وجوههم كانت تعبّر عن الحزن والاحتساب، عن الصبر والألم، عن المحبة التي لا تنطق بالكلمات.
رأيت في كل قبضة يد، في كل لمسة على الكتف، وعدًا صامتًا للوفاء، وعزاءً لا يُكتب في الصحف.
قالت نفسي: “هؤلاء الذين يقفون لتلقّي العزاء يعلموننا أن الحزن المشترك أقوى من الكلمات، وأن الصمت في الحضور أصدق من كل خطاب.”

في طريق العودة، كان المشهد مختلفًا. لم أعد أرى السوق كما رأيته عند الدخول. الوجوه أصبحت كتبًا مفتوحة، الحركات أصبحت معاني، والصوت أصبح لغة الروح. سألت نفسي:
– هل السوق مكان للتجارة فقط؟
– أم أنه رحلة للحياة، حوار بين النفس وما حولها، تجربة وجودية تعلمنا الصبر، الفرح، الحزن، والفهم العميق للآخرين ولنا نحن أنفسنا؟

عند وصولي البيت، جلست مستريحًا، وقلت بصمت:“كم نحن بحاجة لأن نخرج أحيانًا لنرى الحياة كما هي، بلا مرشحات، بلا تسطيح، لنستعيد الوعي بالنفس، لنفهم الناس، ولنعرف أنفسنا حق المعرفة.”ثم رفعت يدي بالدعاء، كما تليق لحظة التأمل العميقة: اللهم اجعل حياتنا مملوءة بالوعي، وقلوبنا مفتوحة لفهم الآخرين، وعقولنا حاضرة في كل لحظة، وأعمالنا صادقة، وأيامنا مليئة بالرحمة والحب. اللهم اجعلنا نرى العالم بعين الروح قبل عين الجسد، ونعيش الحياة كما يجب أن تُعاش.
وهكذا، كانت رحلتي في السوق أكثر من مجرد مهمة بسيطة لصديق.
كانت رحلة في الذات والآخرين، رحلة للحياة والوعي، رحلة لجمع المشاعر والألوان والأصوات في لوحة واحدة، لوحة لا تُرى إلا من يراقب بعمق ويصغي بقلوبته.

السوق، الذي ظننت أني أعرفه، علّمني أن الحياة ليست في الشراء والبيع فقط، بل في مشاهدة البشر، سماع النفس، والفهم الصامت للعالم. وهكذا يعود الإنسان من رحلة قصيرة في السوق، مغيّرًا، مستنيرًا، أكثر صمتًا، وأكثر فهمًا لنفسه ولمن حوله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top