رثاء لا يُكتب بالحبر، بل بالدمع: في وداع المعلمة زينب الشرقاوي

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

الأحد السادس والعشرون من أكتوبر 2025، يومٌ لم يكن كغيره من الأيام.
يومٌ انطوت فيه صفحةٌ من نور، وغابت فيه شمسٌ طالما أشرقت على القلوب بالقرآن والحنان.في هذا اليوم، لبّت نداء ربّها المعلمة زينب الشرقاوي، رحمها الله، والدة المرحوم – بإذن الله – عماد الدين فوزي، م محمد فوزي، الذي نعى والدته بحروفٍ تهتزّ لها القلوب قبل أن تبلّها الدموع.

كانت رسالة العزاء من فضيلة الشيخ الدكتور أحمد عيسى المعصراوي، شيخ عموم المقارئ المصرية، أول ما خفّف وطأة الفقد، حين أرسل صوته المتهدّج إلى الابن محمد قائلًا:“بلغني الخبر الذي هزّ القلب قبل السمع، فارتجفت الحروف وهي تكتب: إنا لله وإنا إليه راجعون… رحلت من كانت تُعلّم الناس كيف يفتحون المصحف بطمأنينة، وكيف يُسمعون قلوبهم قبل آذانهم كلام الله.” كانت كلماته عزاءً يشبه البلسم، ونورًا يواسي نورًا، فقد أدرك الشيخ – وهو من رافق القرآن عمرًا – أن الراحلة لم تكن مجرد معلمةٍ للقرآن، بل كانت روحًا قرآنية تمشي على الأرض، تحمل السكينة في نبرتها، والرحمة في عيونها،والإخلاص في عطائها.

ولدت السيدة زينب الشرقاوي في مصر، غير أن رسالتها لم تتوقف عند حدود الجغرافيا. سافرت إلى الكويت 1968-2002، ثم هاجرت إلى كندا، وهناك صاغت من الغربة منبرًا للأنس بالله. ساهمت في رسالة معهد إسنا لتعليم القرآن الكريم، لا بحثًا عن شهرةٍ أو رياء، بل حبًا في أن يصل صوت الحروف العربية إلى أطفالٍ حُرموا سماعها من المآذن.
كانت تقول لتلميذاتها:“من لم يفتح قلبه للمصحف، لن يفتح المصحف حقًا.”

فزرعت فيهم حبًّا لا يذبل، وكانت تعلّم بالقدوة قبل الكلمة، وتهدي باللين قبل النصيحة. حتى صارت إسنا – في قلب كندا – موئلًا للهوية، وملاذًا للروح، ومنارةً تشعّ من بين الثلوج دفئًا لا يُطفئه بُعدٌ ولا برد.

يا الله… كم تشبه حياتها سورةً من سور كتابك العزيز،تبدأ بالحمد، وتنتهي بالرضا.صفحاتها كلّها صدقٌ وصبرٌ وتسليم.كانت ترى في الغربة امتحانًا للثبات، لا سببًا للانكسار.
وفي الغربة أيضًا، كان لابنها عماد الدين – رحمه الله- قصته النورانية.شبّ على تربيةٍ إيمانيةٍ راسخةٍ، فاختاره الله إليه في ريعان عطائه، – نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدًا. كان ثمرة قلبها وامتداد رسالتها. فلما بلغها خبر وفاته، لم تصرخ كما تصرخ الأمهات، بل قالت بصوتٍ يشبه الخشوع:“اللهم تقبّله عندك، كما تقبّلته مني.” تلك العبارة كانت تختصر أمومتها كلّها: رضًا لله، وتسليمًا بحكمته، وإيمانًا بأن اللقاء الحقّ لم ينتهِ، بل تأجّل.

رحلت بعده بسنوات، لكنّ من يعرفها يعلم أنها كانت تسير نحوه كل يوم، دعاءً وشوقًا وصبرًا.حتى أذن الله بلقائهما في دارٍ لا تعب فيها ولا حزن. رحلت ووجهها الوضيء كأن عليه مسحة طمأنينةٍ من يوقن أنه ذاهبٌ إلى أرحم الراحمين. قال الرافعي: “الأمّ مدرسة، ولكن بعض المدارس لا تُغلق أبوابها بالموت.”
وهكذا كانت زينب الشرقاوي، مدرسةً لا تنتهي دروسها عند قبرها، بل تبدأ منه.مدرسةٌ تخرّج منها مئاتٌ من حفظة كتاب الله، وأجيالٌ من الذين تعلموا أن القرآن ليس حروفًا تُحفظ، بل حياةٌ تُعاش.

يا محمد، يا من حملت اسمها ونورها، اعلم أن الله ما أخذها إلا ليرفع قدرها، وما غيّبها عن عينيك إلا لتبقى في قلبك أوضح حضورًا.تذكّر قول الله تعالى: “وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ”
فإن من يخدم القرآن، يرفع الله ذكره في الأرض والسماء. وأمّك – رحمها الله – رفعت ذكرها بألسنة الأطفال الذين قرؤوا بفضلها: “الحمد لله رب العالمين”. فما ماتت من علّمت الحمد، وما غابت من غرست في غيرها النور. إنها الآن تسمع آياتٍ كانت تردّدها بخشوع، ولكن من أفواه الملائكة والحور، في روضةٍ من رياض الجنة.

يا أماه… إن الحروف تبكيك قبل الأبناء، وإن القرآن يفتقد صوتك الذي كان يعلو بخشوعٍ مع كل ختمة.
وإن الصبح في كندا لن يكون هو ذاته بعد غيابك، فقد كنتِ فيه دفء الوطن، وصوت المئذنة الذي يعيد للقلوب اتزانها. لقد كنتِ – كما قال العقاد – من أولئك الذين “يزرعون في الناس نور الإيمان، فلا يموتون، بل يحيون بقدر ما غرسوا.”

اللهم إن زينب الشرقاوي قد علّمت الناس كلامك، فاجعل كل حرفٍ نطقته صدقةً جاريةً لا تنقطع.اللهم أكرم نزلها كما أكرمت سيرتها، واجعلها في عليين، في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر.اللهم اجمعها بابنها عماد الدين، في ظلٍّ من رحماتك، حيث لا فُراق بعد اليوم.
اللهم اجبر كسر قلوب أبنائها ومحبيها، واكتب لهم من بعد الحزن سكينةً تُطفئ الوجع، ومن بعد الدمع فرجًا يُرضي القلوب.اللهم اجعلها من الذين يُقال لهم عند اللقاء:”ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ”.

لقد رحلت الأمّ، لكن بقيت المدرسة،
بقي الأثر، وبقي الصدى الذي لا يخفت. ولأن القرآن لا يُدفن، فالمعلّمة التي كانت لسانه، لا تموت.
رحلت زينب الشرقاوي عن الأرض، لتبدأ رسالتها الأبدية هناك، في دارٍ “لا لغو فيها ولا تأثيم”، حيث التلاوة لا تنقطع، والصوت لا يخفت، والنعيم لا يزول. سلامٌ عليكِ أيتها الطاهرة، سلامٌ على عُمرك الذي كان للقرآن، وعلى صدرك الذي وسِع الدعاء والابتلاء، وعلى صبرك حين علّمت الناس أن الغربة ليست بُعدًا عن الله، بل طريقًا إليه. وسلامٌ على ابنك محمد، صبرًا جميلًا أيها الحبيب، فما خلفت أمّك إلا أثرًا لا يُمحى، وسيرةً تُقرأ كما يُتلى القرآن: بخشوعٍ وهيبةٍ وإجلال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top