حين يبتسم الله للناس

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

لم يكن الأربعاء 22 أكتوبر 2025، موعدًا عاديًا، ولا الساعة السادسة والنصف مساءً مجرد وقتٍ في تقويم الأيام، بل كانت لحظةً تحوّلت فيها البشاشة إلى عبادة، والفرح إلى رسالة. تلقيت دعوة كريمة من الغالي بوساير خالد العتيبي، لحضور عرس ابنه ساير، فبادلته الدعاء والدعوات، واستعد القلب قبل الجسد لذلك اللقاء الذي حمل في جوفه أكثر مما ظننت. رافقت صديقي بويوسف في الطريق، وكانت الدعوات تتوالى من القلب:بالتوفيق، وبالبركة، وبالفرح الذي يليق بالأوفياء.

في الصورة الذهنية المألوفة، يكون العرس الكويتي كما عرفناه: صالة أفراح تتلألأ أنوارها، أو ديوانية عامرة بالضيوف والتهاني، أو بيتٌ واسع في فناءٍ تتعانق فيه الأصوات والضحكات. لكن تلك الليلة كسرت الصورة، لتصنع مشهدًا لا يمكن أن يُنسى، مشهدًا يوقظ في النفس معنى “الفرح حين يكون لله وفي الله”، لا للزينة وحدها.منذ لحظة اقترابنا من المكان، بدأت الملامح تتبدل.
طريقٌ يشهد كثافة السيارات، وفريقٌ ينظّم السير بابتسامةٍ لا تنطفئ.
ظننتها لحظات عابرة، لكنّ النظام الدافئ الذي يغلف المكان، والوجوه التي تستقبلك بالودّ قبل الوصول، جعلاك تشعر أن هذا العرس ليس مجرد مناسبة اجتماعية، بل طقسٌ إنسانيٌّ يشبه الدعاء الجماعي للفرح.
لم يكن الزحام ضجيجًا، بل كان انتظامًا يحمل بصمة “النية الطيبة”.
كنتُ أرى السيارات تصطف كأنها تسير على نغمةٍ واحدة من التهذيب.
وتنزل الوجوه من العربات بابتسامةٍ عذبة، وكأن كل ضيفٍ يشعر أن له نصيبًا من البركة قبل أن يهنئ العريس.

لم تمض دقائق حتى بدت لي المفاجأة التي لا تُنسى:طابور طويل من المهنئين، يمتدّ أمام البيت على نحوٍ لم أره في ثلاثة عقودٍ ونصف قضيتها في الكويت.نصف ساعة انتظارٍ للسلام، لكنها لم تكن انتظارًا يرهق الجسد، بل لحظةً يشرح الله بها الصدر.وجوهٌ باسمة، وقلوبٌ خاشعة، ودعواتٌ صادقة تتطاير في الهواء كأنها بخورٌ من المحبة.في تلك اللحظة، أدركت ما عناه الرافعي حين قال: “ليس الحب ما تعرفه النفوس من ألفاظ، بل ما تفيض به من أفعالٍ كريمة.”فهذا الطابور الطويل لم يكن إلا ترجمةً حية للحب، بل هو حبٌ يُدار بالكرم، ويُساق بالبشاشة، ويُختم بالدعاء.

كنت أرى العرس في ظاهره احتفالًا، وفي باطنه عبادة. القهوة العربية تُقدَّم في كل ركن، والتمر يتهادى مع الأيدي، والمياه الباردة تسقي المنتظرين، وكأن الأيدي التي تمتد إليك لا تعطي شيئًا مادّيًا، بل تمنحك معنى “الكرم حين يصبح خُلقًا جمعيًا”.وهنا، تذكّرت ابن خلدون حين كتب: “الكرم ليس من طبائع الأرض، بل من سجايا النفوس العالية.”، فآل العتيبي في تلك الليلة جسّدوا هذا المعنى دون تكلفٍ أو مباهاة.

وما بين الدعاء والابتسامة، والازدحام المنظم كأنه صفّ صلاة، شعرت أن لله في المكان سرًّا، وأن في الفرح سكينة لا تُشترى.كأن السماء قد فتحت نوافذها، وأطلقت ملائكةً تحفّ المكان بالدعاء.حينها خطر في قلبي خاطرٌ: لعل الله قال لملائكته في تلك الليلة:“إني أحب خالد العتيبي بوساير، فأحبوه.” فما رأينا إلا أثر المحبة يسري في الوجوه، والسكينة تنزل على الجمع كغيمةٍ بيضاء لا تمطر إلا بالرضا.

حين وصلت إلى التهنئة، وجدت بوساير كما عهدته: وجهٌ مشرق بابتسامةٍ تحتضن الجميع، صدرٌ رحب، ونبرةُ صوتٍ تحمل من التواضع ما يعلّم قبل أن يُعبّر.
تبارك له، فيبادلك الدعاء والدعابة، وتخرج من بين يديه وقلبك ممتلئٌ بنورٍ خفيٍّ لا تدري مصدره. قلت في نفسي: هذا ليس عرسًا فحسب، هذا تجلٍّ نادر للمعنى الإنساني في أجمل صوره.ففي زمنٍ صارت فيه العلاقات اجتماعية أكثر من إنسانية، يخرج لك رجلٌ مثل بوساير ليذكّرك أن الأصل في كل مودةٍ هو النية، وأن البركة لا تُصنع إلا بصدق القلب.

وعقب التهنئة، كانت المائدة العامرة بالخير. ألوانٌ من الطعام لا تبهرك بكثرتها بقدر ما تُدهشك بنظامها وكرم أصحابها.كأن كل طبقٍ يحمل رسالة: “من القلب إلى القلب”.
الضيوف يتبادلون الدعاء قبل اللقمة، والوجوه تتراسل بالفرح قبل الكلام. في تلك اللحظة، خالجني شعورٌ رقراق: أن هذا البيت، المضيء بالأنوار، إنما يحفه نورٌ من نوعٍ آخر — نور الإخلاص، ونور العشرة، ونور من عرف كيف يزرع المحبة في الناس دون أن يطلب مقابلًا.

تأملت المشهد طويلًا، وقلت في نفسي: كم من عرسٍ يمضي صاخبًا بالنغم، فقيرًا بالمعنى، وكم من عرسٍ كهذا يُقيم في القلوب دعوةً إلى الله دون خطبةٍ أو موعظة. الناس هنا يتبادلون السلام بصفاءٍ لا تراه إلا في مواسم الطهر، والأطفال يمرحون دون أن يعكّرهم شيء، والهواء يحمل نكهةً من الفرح الصافي، كأنه بخورُ الكويت نفسها. تذكّرت قول المسيري حين قال: “الإنسان الحقيقي هو من يُدرك أن الفرح أيضًا عبادة، إذا كان طريقه الخير، ووجهته المحبة.” وها أنا أرى هذه العبارة حيّة أمامي. عرسٌ لم يكن مجرد مناسبة اجتماعية، بل حكاية عن “كيف يلتقي الإيمان بالكرم، وكيف يتحوّل الفرح إلى صدقة جارية في وجوه الناس.”

حين غادرنا المكان، كان الليل قد اكتسى بلونٍ من الطمأنينة لا يوصف.
لم أشعر أنني خرجت من عرسٍ، بل من درسٍ في الإنسانية، درسٍ علّمني أن الخير لا يحتاج إلى منبرٍ، بل إلى قلبٍ صادقٍ يفعل ما يعجز الكلام عن وصفه. قلت لبويوسف ونحن في الطريق: “ما رأيك؟ لقد رأينا الليلة معنى أن يفرح الناس لله، لا لأنفسهم.” ابتسم وقال:“كأننا عدنا من رحلةٍ روحيةٍ لا من مناسبةٍ اجتماعية.”

أعدت التأمل في ذلك الطابور الطويل، وتلك الوجوه الطيبة، وذلك العطاء الذي امتدّ من فناء البيت حتى الفضاء. إنه طابور المحبة، لا المهنئين فقط؛ طابورُ الذين يحبّون الخير لغيرهم كما يحبونه لأنفسهم.
وكم هو جميل أن ترى في عرسٍ – في زمنٍ تتسابق فيه المظاهر – وجوهًا تتسابق في الدعاء. تذكّرت حينها قول الرافعي مجددًا: “إن أجمل ما يفعله الإنسان أن يجعل من لحظات حياته وسيلةً إلى الله، ولو كانت لحظات فرح.”وهذا ما فعله بوساير، من دون أن يدّعي أو يُخطّط، بل بفطرته النقية التي تعطي لأن الفرح طابع السجدة وشكل البسمة.

وها أنا أكتب الآن، لا لأصف عرسًا بقدر ما أصف لحظةً التقى فيها الناس على بساطٍ من الحب والإيمان. لقد كان المكان مرآةً لما يمكن أن تكون عليه المجتمعات حين يتقدّم فيها خلق الإيثار على عادة المباهاة. وكان بوساير، في تلك الليلة، مثالًا للرجل الذي يمشي على الأرض بهدوء، ويترك وراءه أثرًا من النور لا يُمحى.

إن الأعراس – حين تخرج من ضجيج الطقوس إلى صفاء النفوس – تصبح صلاةً أخرى في محراب الفرح.
ولعلها تلك اللحظة التي ترى فيها الحب حقًا، لا في نظرات العروسين وحدهما، بل في قلوب الناس جميعًا. فكما قيل: “الاجتماع الإنساني لا يدوم إلا بفضيلة، فإذا زالت الفضيلة صار الاجتماع مصلحة.” وهذا العرس، بكل ما فيه من محبةٍ وكرمٍ وابتسامات، كان دليلًا أن الفضيلة ما زالت تعيش بيننا، وأن المصلحة لا مكان لها حين يحضر الإيمان.

وفي ختام المشهد، لم أجد ما أكتبه إلا هذا الدعاء: اللهم بارك في خالد العتيبي وأهله، وأدم على ابنه ساير وعروسه المودة والرحمة، وازرع في بيوت الناس مثل هذا النور، الذي يجعل من الفرح عبادةً، ومن الكرم سبيلاً إلى رضاك.

لقد رأيت في تلك الليلة معنى آخر للعبارة التي تسكنني كلما رأيت الجمال في بساطته: ترى الحب في الأعراس؟ نعم، ولكن بعض الأعراس وحدها ترى فيها وجه الله.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top