|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

في عالم يمضي بخطى متسارعة، يطغى عليه الإيقاع الاستهلاكي وتضيق فيه مساحات التأمل والوفاء، قد تبدو القصص الإنسانية الخالصة مجرد ظلال باهتة، تُروى ثم تُنسى. ومع ذلك، تظهر بين الحين والآخر لحظات نادرة، تتسلل من ثنايا الزمن، لتوقظ فينا الإيمان العميق بأن ما يصنع القيمة الحقيقية للحياة ليس المال ولا المنصب، بل صدق الشعور، ونُبل القصد، وعمق الارتباط بين الأرواح. ومن تلك اللحظات، لحظة تلقيت فيها اتصالًا سيظل محفورًا في وجداني.
في ظهيرة يوم الإثنين، السابع من أبريل لعام 2025، وردني اتصال بدا عاديًا في هيئته، لكنه ما لبث أن تحول إلى لحظة من تلك اللحظات التي تقلب كيانك، فتفتح في داخلك بوابة عميقة على المعنى، وتضيء في قلبك شعلة حنين، وتطلق سيلًا من الأحاسيس يصعب كبحه. كانت المتصلة شقيقتي العزيزة، تحمل في صوتها نبرة تأمل وتردد، وكأنها تمشي بين الظن واليقين، تحمل سؤالًا يختلط فيه الذكرى بالدهشة، والإرث بالحاضر، والحب بالعهد، قالت لي، إن إحدى بنات الغالية، الراحلة الحاضرة في القلب، الوالدة وداد البحطيطي – رحمها الله رحمة واسعة وأسكنها فسيح جناته – قد اتصلت بها هذا اليوم، وهي تحمل بين يديها ظرفًا صغيرًا، لكنه أكبر من العالم. ظرف مدون عليه بخط والدتها، أن يُعطى لطارق عند زواجه. لم تعلم الابنة بزواج طارق، حتى وصلها الخبر مصادفة، فتحرك قلبها كأنما أوقظ من سباته، لتسارع إلى الاتصال، لا تسأل، بل تستأذن، لا تحتار في جوهر الأمر، بل في تفاصيل الوفاء.
وفي لحظة هدوء مفعمة باليقين، قلت لشقيقتي: لا شيء علينا إلا تلبية الوصية، فالوصايا لا تُرد، والمحب لا يُخذل، والرحم الممتد عبر الروح لا يُنكر. ستستلمين منها الظرف، وهو لنا، كما هو لها، كما هو للأم التي لم تترك الدنيا دون أن تزرع فيها آخر ورودها، وآخر نبضات العطاء.
يا الله، ما أجمل هذا المشهد! وما أندر هذه القيم التي تتجلى في لحظة بسيطة، لكنها في جوهرها أعظم من كثير من الملاحم. امرأة راحلة منذ سبع سنوات ونيف، لكنها حيّة في ذاكرتها وذاكرة أبنائها، حيّة في حبها النقي، في إحساسها السامي، في رسالتها التي لم يكن لها أن تُنسى أو تُهمل. من تكون وداد البحطيطي حتى تمتد يدها البيضاء بعد الرحيل، فتُهدي وتوصي وتحنو؟ إنها روح عظيمة، سامية، تجاوزت أواصر الدم، وارتقت إلى أواصر القلوب.
لقد حملت حبًا لطارق، وهو ليس ابنها، ولا حفيدها، ولا يمت إليها بصلة رحم، سوى ذلك الرباط العجيب الذي لا يفهمه إلا الكبار، وربما لا يفهمه إلا الأنقياء. إنها الأمومة التي تتجاوز الحدود، التي تزرع الخير في كل اتجاه، والتي تصنع من الحب عطاءً لا يُقاس ولا يُوزن، بل يُروى ويُبجل، وعندما تقرر ابنتها وفاء – ويا لها من تسمية مطابقة لحقيقتها – أن تحفظ تلك الأمانة في قلبها كل هذه السنوات، ثم تبادر بكل لهفة إلى تنفيذها فور علمها بزواج طارق، فإننا لا نقف أمام سلوك عابر، بل أمام تجلٍّ نادر للوفاء الذي لم يعُد كثيرًا ما نراه. وفاء تحفظ عهدًا قديمًا، وتكرمه كما لو أنه أقدس ما تملكه. في زمن قد تتراخى فيه العهود، وتُنسى فيه الكلمات، تأتي هذه المرأة لتثبت أن بعض الناس لا تنكسر فيهم القيم، ولا تنطفئ فيهم النوايا الطيبة، ولا تبهت فيهم الذاكرة.
وقد تذكرت هنا ما قاله العملاق العقاد عن العظمة، إذ قال: “العظمة الحقة هي في النفوس، لا في الأجساد، ولا في المناصب، ولا في الثراء، إنها في قدرة الروح أن تعلو، وتمنح، وتحب، وتبقى في وجدان من بعدك.” وأي عظمة أبلغ من أم تحتفظ بوصية لطفل ليس من دمها، وتوصي أن يُكرم يوم فرحه، وكأنها كانت تشارك الغيب حلمه وتستودع الأيام أملها؟، أما الراقي المسيري، فقد طالما أشار إلى أن الإنسان في عمقه ليس مجرد كائن بيولوجي، بل هو حامل لرمزية، لتراكم ثقافي، لقيم لا تموت، وأن في المواقف الصغيرة تتجلى حقائق الكبار. وهذا الموقف، في بساطته الظاهرية، يحمل إرثًا إنسانيًا عظيمًا، يصعب أن يُكتب أو يُختصر، لكنه يُحس ويُعاش.
وقد وجدت نفسي أتذكر محمد الكيلاني حين كتب: “إن الوفاء لا يُقاس بمدة العلاقة، بل بعمقها، وبصدقها، وبما تتركه فينا من نقاء.” وكم هو نقي هذا الوفاء، حين يتجلى في صورة ابنة تكرّم أمها بعد رحيلها، وتُبلغ رسالتها كما لو أن الروح ما تزال بيننا، في هذا الظرف، المخبأ منذ سنوات، تكمن رسالة أعظم من أي محتوى مادي: إنها رسالة إنسانية، شعورية، وجدانية. رسالة تقول إن الحب يمكن أن يُغرس خارج الحقول المعتادة، وأن الخير لا يموت، وأن الأمومة لا تُعرف بالولادة، بل بالنبض، وأن الوصايا الصادقة لا تضيع، مهما مرّ الزمان وتغيّرت الحياة.
لقد أبكتني هذه القصة، وحرّكت في داخلي ما لا تحركه الخطب الطوال. أبكتني لأنني رأيت فيها صورة أمي، بل صورة كل أم عرفت كيف تُحب بصدق، وتمنح بلا مقابل، وتُخلّد نفسها لا بالضجيج، بل بالفعل الصامت، الوصية المكتوبة، الظرف المنتظر، والقلب الذاكر، وإني لأحمد الله أن كنتُ حاضرًا في هذه القصة، شاهدًا عليها، شريكًا في تنفيذها، وأعِد وداد – حيث كانت – أن وصيتها لن تُنسى، وأن حبها سيبقى شاهدًا على عظمة أرواح عرفناها فرحلَت، لكنها تركت فينا ما يجعلها أقرب إلينا من كثيرين على قيد الحياة.
إن مثل هذه القصص، برغم بساطتها، تضعنا وجهًا لوجه مع سؤال جوهري: ما الذي يبقى منا فعلًا بعد الرحيل؟ إن لم تكن محبة نقيّة، أو فعل كريم، أو عهد لا يُنقض، فما الذي يستحق أن يُتوارث؟ في زمن تعصف به التحولات وتبهت فيه المشاعر، تذكّرنا الأرواح الكبيرة – كوداد وابنتها – أن الإنسانية لا تزال بخير، ما دام فينا من يفي بالعهد، ويقدّس الكلمة، ويحتفي بالعاطفة الأصيلة.