أنا غزة… لا أُقتل مرتين!

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

لم أكن يومًا مجرّد رقعة على الخريطة، أنا المدينة التي يعرفها التاريخ أكثر مما تعرفها نشرات الأخبار، أنا التي تكتب اسمها الشظايا، وتحفظها السماء، ويقرأها الفجر في نداءات المؤذنين من بين الأنقاض، لا تسألوني كيف أعيش… فالأسئلة الكبرى تُطرح على من مات ولم يمت.

في هذا الصباح، لم أُمسح عن الأرض، لكني كُتبت من جديد… بأصابع من نار، على جبين كل من رأى ولم يتكلم. الطفل الذي استيقظ ليجد أخاه شهيدًا، الفتاة التي كانت تحلم بالجامعة، فصارت تحفظ أسماء الطائرات، الأم التي تصلي وتعدّ أبناءها على أصابعها… بعد أن كانت تعدّ الأطباق. أجل، أنا غزة، لكني اليوم أتحدث بغير صوتي… فقد استُبيح حتى صوتي، وصار الصدى يُكمم الصرخات.

يا من تسمعونني: هل سمعتم قطّ حجارة تتكلم؟ هل رأيتم جدرانًا تبكي؟ هل صادفتم طريقًا ما زال دمه ساخنًا بعد يومين من المجزرة؟ أنا تلك الحجارة، وتلك الجدران، وذلك الطريق.
صحيحٌ أن التاريخ يحب البطولات، لكنني لا أحتاج إلى أن أُحب لأبقى. أنا البقاء ذاته…
أنا الوضوح الذي أرعب العتمة، والحقّ الذي قاوم لأنه لا يعرف أن ينحني.

القَسّام؟
ذاك الابن الذي وُلد من رحم الخسارة، وكبر على شرف الجراح. هو ليس فقط من يقبض على زناد… بل من يقبض على كرامة أمته في لحظة السقوط، هو الذي لا يُسمّي الشهادة موتًا، بل بداية. كلما سقط مقاتل، انقسمت الأرض نصفين: نصف يُصلّي عليه، ونصف يُنجبه من جديد.

أما الشهداء؟
فلا تتحدثوا عنهم بصيغة الماضي. إنهم في أزقّتي، في أعمدة مساجدي، في دفاتر الأطفال التي لم تكتمل. عندما يُقال: “سقط شهيد”… اعلموا أنني اكتسبت حياة جديدة لا تُرى.
أُعيد ترتيب نفسي، لا بالبناء، بل بالثبات، من ظنّ أنني سأسقط لمجرّد أنني خالية من الأسمنت، نسي أنني مشيدة باليقين.

وأنا؟
لا تنتظروا مني أن أعتذر عن صلابتي. ولا أن أُخفف من قسوة عبارتي كي تُنشر في وسائل الإعلام. لقد تعبتُ من أن أكون قابلة للتصدير بلغة مخففة، فمن أراد أن يعرفني، فليقترب من دمي لا من عناويني. ومن أحبّني، فليعرف أنني لا أُختصر بكلمة “مأساة”…أنا اختبار أخلاقي للعالم، أنا المرآة التي تُحرج كل وجهٍ اختار الصمت.
قالوا عني: منطقة منكوبة، لكني أُصحح: أنا منطقة منكَبة على وجعها، رافعة جبينها،
أُصلي بلا ماء، أصرخ بلا صوت، وأُقاوم… حتى حين أُهدم، أنا التي حوّلت جراحها إلى مدارس، وأبقت على نبضها في جنازات الشهداء، أُعدّ شهدائي لا للبكاء، بل لأُذكّر أن الدم لا يصدأ، وأن الأسماء لا تموت…هل نسيتم “محمد الدرة”؟ هل محيتم “أبو عبيدة” من ذاكرتكم؟
هل اعتقدتم أن “عياش” كان مجرد اسم… لا فكرة تولد كل يوم؟

هنا، في زقاقٍ ضيّق قرب الميناء، تسير طفلة فقدت والدها، وتُقسم أنها ستكتب، لا بالمداد، بل بالكبرياء. وهناك، على أنقاض مسجدٍ تهدّم، شابٌّ يُنقّب تحت الركام عن مصحفه الذي لم يكمله، وذاك الرجل، في المشفى، يُعطي دمه لولدٍ لا يعرفه، لأنني علمته أن العائلة ليست فقط من يسكنون معك، بل من يسقطون معك، أهلي لا يملكون سلاحًا نوعيًا، لكنهم يملكون قضيةً لا تَهرم، وربًا لا يُهزم، وعزمًا لا يساوم.

أما أنتم، يا من تقرأونني في العالم: لا تخجلوا من دموعي…بل اخجلوا من جفاف عيونكم.
لا تكتبوا عني تقريرًا، بل أوقفوا الجريمة، لا تُمجّدوا صمودي فقط، بل ارفضوا استباحتي.
أنا لست بطلة خارقة، أنا مدينة تُذبح كل يوم، وتغسل جراحها بنفسها.

وفي الختام، لن أطلب شيئًا. فغزة لا تتسوّل نصرة، بل تُحرج كل من لم ينصر. لكنني أقولها للتاريخ: أنا لم أُقتل مرتين…أنا التي لا تموت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top