حين تحدّث البحر عند الغروب… من شاطئ نواكشوط إلى قلب المحظرة

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

الخميس، العاشر من أبريل 2025، كانت نواكشوط تحتفي بمساء لا يُشبه غيره. على ضفاف المحيط الأطلسي، حيث تلتقي اليابسة بحكايات البحر، جلسنا قرب الشاطئ الرملي نرصد الغروب كمن يترقب سرًا موغلًا في القدم. في الأفق البعيد، كانت الشمس تمشي الهوينى نحو مغربها، بينما تشتدّ الأمواج شيئًا فشيئًا، كأن البحر استيقظ من غفوته ليحدّثنا، أو ليُخبرنا بأنه هنا… منذ بدء الحكاية.

المكان، بما فيه من اتساع وهدوء مهيب، بدا كأنه مسرح أزلي لمشهد تتكرّر مشاهده دون أن تفقد دهشتها. الغروب هنا لا يكتفي بجماله، بل يفيض عليه جلال، تشعر معه أن الكون يتوضأ بالنور قبل أن يدخل في صلاته الليلية، كانت الأمواج تلامس الشاطئ أولًا برفق، ثم ترتفع شيئًا فشيئًا، حتى أصبحت كأنها تحاورنا، تقترب فتبوح، وتبتعد لتمنحنا فرصة الإصغاء. وعلى وقع هذا النشيد الأزرق، بدأ حديثنا ينمو كما تنمو الحكايات عند المحاضر: هادئًا، متينًا، لا يتعجل الوصول، بل يتعمّق في المدى.

بدأ أحد الجالسين، وكان من أهل الأرض، يتحدّث عن المحاضر، تلك المدارس الصحراوية التي تشتبك بالرمال كما تشتبك الجذور بالأرض، وتستمدّ نورها من السماء. قال: “المحظرة ليست مبنى، بل معنى… ليست فصلًا دراسيًا، بل سفرًا في المجاهيل”.
تأملت ما يقول، وكنت أسمع البحر يوافقه في كل كلمة، بصوته المتكرر، المترنّم، كأن الطبيعة نفسها تشهد أن هذا الكلام ليس مجرد فخر، بل حقيقة تسكن الوجدان. في موريتانيا، لا تزال المعرفة تُؤخذ عن القلوب، لا عن الورق، وعن السلوك، لا عن الشهادات. هناك، يجلس التلميذ أمام الشيخ على الأرض، ويكتب على اللوح الخشبي، ويمحو بالماء، ويحفظ قبل أن ينام، كأن العلم دعاء، وكأن الفهم عبادة.

قال آخر: “مشايخ المحاظر لا يأخذون أجورًا، بل يعيشون لأجل الرسالة، يعلمون لله، ويفنون أعمارهم في غرس النور”. استدرت نحوه وأنا أبتسم، وقلت في داخلي: “إن بعث ابن خلدون من جديد، لقال إن المحاظر هي أقوى دليل على نظريته في أثر البيئة في بناء الحضارات”. كيف لا، وقد كتب في مقدمته أن العلم لا يثمر إلا في بيئة متواضعة، حيث لا تلهي المظاهر عن الجوهر، ولا تفسد المصالح صفاء القصد.
وحين بدأت الظلال تمتدّ على الرمل، قال أحدهم، وكأنه يرتل شعرًا: “أما رأيتم كيف يعلو الموج كلما اقترب الغروب؟ إن البحر، كما الشيخ، لا يعطيك كل أسراره دفعة واحدة، بل يعلّمك بالصبر، ويكشف لك شيئًا فشيئًا”.

تذكرت حينها المتنبي، وبيتًا له كنت أردده في شبابي:
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ
فلا تقنعْ بما دونَ النجومِ
وهؤلاء الشيوخ، لم يغامروا بأموالهم، ولا بنفوذ، بل بأعمارهم، بأوقاتهم، بأحلامهم، في سبيل أن ينبت النور في قلب طالب علم، تحت خيمة، أو على ضوء قنديل. لم يسألوا عن المقابل، لأنهم – كما قال أحدهم “يأخذون أجورهم من السماء”.
وفي حديثنا، طُرحت أسماء، كلّ واحد منها يشبه عنوانًا في مكتبة خالدة. شيوخ حفظوا الكتب الستة، وفسروا القرآن بالسند، وأتقنوا النحو والمنطق والبلاغة والفقه، ومع ذلك تراهم بأثواب بيضاء بسيطة، لا تعرف عنهم إلا من نور وجوههم وسكينة أرواحهم.

مع كل موجة ترتفع وتزأر، كنت أشعر أن البحر يغار من هؤلاء، يريد أن يقول شيئًا، لكنه يعجز عن وصفهم. أو لعله يعرف أن في الأرض ما هو أعمق منه… في رمل موريتانيا، حيث تُغرس المحابر، وتنبت العلماء، حين حلّ الظلام، بدا البحر أكثر هيبة، وكأن الليل ألبسه جبة سوداء من وقار. وما زال الصوت المتكرر للأمواج يروي لنا ما تبقى من الحكاية. جلسنا قليلًا بصمت، نحاول استيعاب ما سمعنا، لا من الكلمات فقط، بل من الوجوه، من النسيم، من انحناءات الضوء، علمت حينها أن المحظرة ليست مدرسة، بل كائن حي، يتنفس بالعلم، ويتحرك بالإخلاص، ويحيا في ذاكرة الأمة. هي من تلك الأشياء التي لا تُرى، لكنها تُشعر، كما لا يُرى الإيمان لكنه يُغيّر كل شيء.

وعند مغادرتنا الشاطئ، التفتُ مرة أخيرة نحو المحيط. كان لا يزال يتحدّث، لكن ليس بصوت… بل بما يشبه الدعاء، كأنما يقول: “طوبى لمن جعل من عمره مِدادًا، ومن علمه زادًا، ومن صبره جسرًا للآخرين”. في ذلك المساء، لم يكن الغروب نهاية النهار، بل كان بداية لوعي جديد… ودرسًا أبديًا، لا يُلقى من منبر، بل يُتلى على الشاطئ، حين يتحدّث البحر، وتُجيب المحاظر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top