|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

الخطوة الأولى: خارج الزمن
لم تكن وجهتنا بعيدة عن نواكشوط، لكنها كانت بعيدة عن الزمن… عن الضجيج… عن البلادة الحضرية التي تستهلك الأرواح دون أن تعيد لها شيئًا.
كانت الوجهة نحو البادية… حيث لا يحتاج الإنسان إلى كثير من المظاهر، بل إلى القليل من الضوء والكثير من المعنى، وهناك، في أطراف الرمال التي تعانق السماء، كنا على موعد مع مائدة لا تُصنع من طعام فحسب، بل من حب وحنين وسلام، استقبالٌ لا يُشبه إلا صلاة صافية، أو عناق أم بعد غياب طويل، وجبة روحية قلبية تريح النفس، وتملأ الصدر مودة ورضى، “إذا دخلت البادية، دخلت قلبك من غير استئذان.” أحد حكماء شنقيط
بيت الشعر… ذاكرة اليد والظلّ
بيت الشعر ليس خيمة، بل معبد بدويّ للصفاء، كل خيط نُسج فيه يقول: “كنا هنا، وما زلنا.” الرموز المطرزة يدويًا تحكي حكايا الجدات، والخيوط تمسك بخيوط الذاكرة، الجلوس على الأرض ليس تقشفًا، بل هبوط متأنٍ من حضارةٍ متعجرفة إلى إنسانية خالصة.
“من لم يُصلِّ على رمل شنقيط، لم يعرف كيف تصلي الأرض.”
محمد الأمين الشنقيطي
الصلاة في محراب الرمال
مع نداء المؤذن، اتجهنا نحو القبلة… لا سقف فوقنا سوى السماء، ولا سجاد سوى الرمل.
ركعنا… وسجدنا… وشعرنا وكأن الملائكة تظللنا، ثم دخل الشاي الشنقيطي على الخط…ليس شرابًا، بل نشيدًا يُعدّ على نارٍ هادئة…يُسكب في كؤوس ضيقة، يُرفع زبده كأنها القصيدة تُعلن بيتها الأجمل.
مائدة تُعزف لا تُرتب
بينما تنساب أنفاس الشاي الأولى، كانت المائدة تتحضّر كما تتحضر السمفونية في دار الأوبرا…في مقدمتها: طاجن الثريد الموريتاني الأصيل، خبز رقيق تغمره مرقة الشاة، تعلوه قطع اللحم الصغيرة، يُرش عليه القديد، ويُغمر أخيرًا بزيت الزيتون النقي…
“من لم يعرف قدر القديد، لم يذق شرف القِرى.” المختار بن بونا
الخروف… القصيدة المطهية
ثم كُشف الغطاء…وإذا بالخروف الصغير، محشو بالأرز والخضروات، يُرسل بخاره كما تُرسل القافية نشيدها، تحار: أتأكل اللحم أم الأرز؟ كريم محمد لا يمنحك الفرصة… يقطع بمهارة، ويضع القطعة أمامك وكأنها قطعة من الكرم نفسه، “الكرم في شنقيط لا يُقال… يُؤكل.”
التحلية… حين تنطق الحلاوة بالحكمة
تتوالى الأطباق: تمر جزائري طري، مع قشطة موريتانية ناعمة…
ثم يأتي حليب الإبل الطازج، بحرارته، بمذاقه، بكرامته، “اللبن أول غذاء الأنبياء، وآخر سرٍّ في الصحراء.” بداه ولد البوصيري
السمر… حيث لا تنام الكلمات
جلسنا من جديد، على الأرض، نرتشف الشاي ونتبادل الحكايا…
كل حديث كان خيمة صغيرة تُبنى بالكلمات، كل استشهاد يربطنا بعالم: عن العلامة الددو، عن ابن الحاج إبراهيم، عن أحمد بابا التنبكتي… كل رجل كان يحمل في صدره مكتبة، وفي روحه نجمة.
الختام… لا يشبه شيئًا
وفي الختام، وقف أحدهم، وقال:
“إذا مررت ببيتٍ في البوادي… فلا تمرّ عليه إلا ضيفًا
ففي الضيافة شنقيط قد كتبت… تاريخها من فوق سيفٍ وكتاب”
عدنا إلى نواكشوط…لكن كل واحد منا يحمل في قلبه خيمة، وفي روحه خروفًا محشوًا بالحب، وفي عقله حديثًا لا ينتهي.