|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

لم يكن الصباح مؤهَّلًا لكل هذا الضياء لولا أنّ الأرواح سبقت الشمس إلى النهوض. وقف الزمنُ برهةً على عتبة الباب، كأنّه يُحاول التحقُّق من خبرٍ حالم، وما إن لاح طيفُ الأحبّة حتى تدافع الضوءُ من كل ناحية، يشقُّ صدر السماء بشارةً لا تُقاوَم. لِوَهلةٍ حسبنا العصافير تُصفِّق أجنحتها أعلى من المعتاد، وحسبنا الريح تُرتِّب جدائلها لتستقبل خطواتٍ تعرفها تمام المعرفة. لقد تدرَّبت الدنيا طويلًا على هذه اللحظة، حتى صار رحيقها أكثر عذوبةً ممّا توقّع القلب وهو يلوك الانتظار.
تصوَّروا أمًّا كانت تستند إلى جدار الحيرة، تؤنسها سبحات تلاوةٍ تُخفي رجفةَ دعاءٍ تنامُ وتستيقظُ في عينيها. لم تتعلَّم المرأةُ يومًا فنَّ الإلقاء، لكنّ لسانها يومذاك ارتدى ثوبَ البلاغة؛ وحين انشقّ الباب، لم تنبس شفتاها بحرفٍ واحد، لأنها وجدت في حضنها كلَّ ما يُقال. هناك، على خيطٍ بين الصمت وصهيل الفرح، سُمِعَ لأول مرةٍ صوتُ القلب وهو ينبضُ علنًا، كطبولٍ يقرعها ملاكٌ صغيرٌ احتفاءً بتمام الرحمة.
كان الأطفالُ، وقد شُغِّلَتْ في عيونهم كاميراتُ الدهشة، يجرّبون ركضًا لا يهدف إلى شيءٍ سوى تعلّم معنى العودة. أمّا الجدران، فكانت تُزيح عن نفسها ما تراكم من غبار الصبر، لتكشف عن نقشٍ قديمٍ يقول: “إنّ الفَرَجَ يُعطي لمن يُحسن الظنَّ بالله” ابتسمتُ وأنا أرى الدهشةَ تُدرّس ذاتَها للأطفال وتوزّع شهاداتٍ عاجلةً على كل وجهٍ اندلق بالحبّ دفعةً واحدة.
ثمّة أبياتٌ من الشعر لم تُكتَب بعد، مكتفيةً بما سطَّرته الدموع على الوجنات من حروفٍ لا تقرؤها إلّا القلوب. وثمّة شجرةٌ عجوزٌ أمام البيت، خاضت مواسمَ شتاءٍ شاقّة، فلمّا لامستها أكفُّ العائدين انتصبَت كفتاةٍ تُجدِّد عِقدَ شبابها. حتى الشمس أدركت أنّ عليها أن تتريَّث قليلًا قبل أن تبلغ كبد السماء؛ فثمّة أفراحٌ يليق بها أن تنضج بتمهّل، لتظلّ البهجةُ فيها نديةً لا تحترق بسرعة.
ولأنّ الحمدَ لا يكتمل ما لم يُترجَم إلى جسرٍ يعبر منه غيرُنا إلى دفءٍ مماثل، ارتفع في الخواطر نداءٌ للتقاسم؛ تقاسم النور، والرزق، والرجاء، وكل ما يجعل القلبَ أكثر رحابةً. هكذا تفجّرت ينابيعُ البِرِّ كأنّ الأيادي اتفقت سرًّا على أن تكون امتدادًا لمعجزةٍ سُمِحَ لها أخيرًا أن ترى النور. صار العطاءُ لغةً ثانيةً للفرح، وصارت المدينةُ—وهي تقتسم خبز السرور—أشبه بحديقةٍ تُزهِر في لحظةٍ واحدة.
يا لهذه اللحظة حين تُصبح الذكرى مدرسةً للأمل! تعلّمنا من رحلة الغياب أنّ الليلَ، مهما اتسع، لا يُحسن الاحتفاظ بالظلمة إذا عاهد القلبُ فجرَه. وتعلّمنا أنّ اليقينَ ليس ترفًا للنصّوص، بل زادُ المسافر في صحراء القلق. وحين أدركنا أنّ الدعاء لا يضيع في سماءٍ ضيّقة، عرفنا أنّ السماءَ أوسع ممّا تُلقِّنه الخرائط للطارقين على أبوابها.
والآن، وقد طار الفرحُ من أعشاشه ليحطّ في صدورٍ عديدة، لن نكتفي بأن نسرد ما جرى كحكايةٍ جميلة؛ بل سنجعله إذنَ عبورٍ إلى زمنٍ أقلّ قسوة، وأعلى سقفًا للرحمة. سنتقن فنَّ الاعتذار عن كل ساعةِ يأسٍ عَبَرَت في الطريق، وسنعلِّم خوفنا أن يكون ضيفًا خفيف الظلّ، لا مقيمًا ثقيلًا. سنُشيِّدُ في أرواحنا منائرَ تُوقِدُ قناديلَ الرجاء لمن لم تصلهم بشارةُ الضوء بعد.
فيا صديقي القارئ، إذا مررتَ يومًا بمكانٍ كان الحزنُ يسكنه ثم غادرَه، فأوصِه أن يترك العنوانَ لأفراحٍ قادمة؛ فما عاد الألمُ سيّدَ المشهد، ولا صار الصمتُ قادرًا على طمس أنشودةٍ تعلّمتها القلوب توا. لقد انتصر النور، لا بسطوةِ صراخه، بل بشروطِ لطفه؛ قادمًا كالهمس، يعقد رايةَ البقاء فوق أسطح البيوت، ويُعلِن أن كل طريقٍ إلى اليأس قد أُغلِق، وأنّ للفرج أبوابًا لا تُقفل أبدًا.
والسلام على الفرح ساعةَ استوى، وعلى القلوب حين احتضنته، وعلى حياةٍ تغيّرت ملامحها لأنّ الله إذا أراد بالناس خيرًا هيّأ لهم ضحكةً تُصيبهم جميعًا بعدلٍ، فتتوزّع بينهم كما يتوزّع الضوء، لا يخصم من عينٍ ليعطي عينًا أخرى، بل يفيض حتى تعجز الجفون عن الاحتفاظ به، فينساب إلى الأرض، فتزهر خُطاهم مرةً أخرى.