قلب صغير أضاء ظلام الحياة

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

محمد تهامي

خبير التطوير المؤسسي

في ركنٍ من أركان الحياة حيث تتقاطع البراءة مع القسوة، وتُختبر النفوس الصغيرة بأقدارٍ أكبر من أعمارها، كان “خالد” يمشي إلى مدرسته كل صباحٍ بخطى خفيفة، يحمل حقيبته الصغيرة وابتسامته الدافئة، وفي قلبه ما لا تُطيقه القلوب الكبيرة.

خالد، الطفل الذي اعتاد أن يعود من مدرسته مفعمًا بالحيوية، بدأ يعود مؤخرًا بجوعٍ غريب، جوعٍ لا يشبه الأطفال، بل يشبه الفراغ الذي يخلفه العطاء. لاحظت والدته هذا التغير، فراحت تراقبه بقلق الأمهات، فتحت حقيبته مرارًا، راجعت وجبته التي تعدّها له بحب كل صباح، ولم تجد ما يفسر هذا الجوع المستجد. حتى قررت مواجهته وسألته:
ــ “هل تأكل طعامك في المدرسة؟”
أومأ برأسه، لكن عينيه قالتا شيئًا آخر. وعندما ألحّت بالسؤال، تهرّب بصمت، واختبأ في غرفته. عندها، لم تتردد الأم. توجهت إلى المدرسة في اليوم التالي، حيث استقبلتها المعلمة بحرارة وقالت:
ــ “خالد؟! إنه أحد أروع طلابي… يساعد الجميع، يضيء الفصل بابتسامته، لكنه يبدو مرهقًا مؤخرًا، وكأنه لم يتناول طعامًا منذ الصباح.”

كأن السهم أصاب قلب الأم. طلبت رؤية خالد، وحين دخل الغرفة ورآها، تجمّد مكانه، وبدت على ملامحه إشارات الحذر. سألته بحدة ممزوجة بالقلق:
ــ “أين طعامك؟ هل يضايقك أحد؟ هل يأخذ أحدهم طعامك؟”
صمت… ثم أغرورقت عيناه، لكنه ظلّ صامتًا. وفي لحظةٍ مفاجئة، اندفع طفل صغير من زملائه وقال بصوت مرتجف:
ــ “خالتي… أنا من يأخذ طعام خالد.”
ساد الصمت. شهقت الأم، وظل الطفل يواصل كلماته بشجاعة أكبر من جسده النحيل:
ــ “أنا فقير. أمي توفيت منذ عام، وأبي مريض طريح الفراش. أعمل بعد المدرسة، وأحيانًا أذهب إليها بلا طعام. خالد عرف ذلك… ولم يتحمل رؤيتي جائعًا، فبدأ يعطيني وجبته كل يوم. حاولت أن أرفض، لكنه أصرّ، وقال لي: أمي تطبخ لي كثيرًا، لا تقلق.” انفجرت دموع الأم، دموعٌ لم تكن حزنًا بل امتنانًا، وفخرًا، وانكسارًا أمام نقاء طفلها. جثت على ركبتيها أمام خالد، وضمت وجهه الصغير بين كفيها، وقالت بصوتٍ مبلل بالدموع:
ــ “يا بني… لماذا لم تخبرني؟ كنت سأعد لكما الطعام سويًا، كنت سأكون أمًّا لك وله.” نظر إليها خالد بعينين دامعتين، وهمس:
ــ “ما أردتش أزعّلك، يا أمي. كنت فاكر كده كفاية.”

في تلك اللحظة، التفتت الأم نحو الطفل الآخر، ووضعت يدها على كتفه وقالت:
ــ “من اليوم، أنا أمّك أيضًا. وسأعد لكما الطعام معًا… وسأعطيك مصروفًا حتى لا تجوع بعد الآن.”
وقفت المعلمة تراقب المشهد، ثم مسحت دموعها وهمست:
ــ “خالد، لقد علّمتنا اليوم أن الكرم ليس شيئًا نملكه، بل شيئًا يسكن أرواحنا. الكرم لا يحتاج مالًا… بل قلبًا حيًّا.”

عاد خالد إلى منزله ذلك اليوم، ليس مجرد تلميذ، بل بطل، وإنسان كبير في جسد صغير. لم يتحدث كثيرًا، لكنه غيّر الكثير. أثبت أن العطاء لا يحتاج إعلانًا، بل إحساسًا، ولا يحتاج ظروفًا مثالية، بل روحًا تعرف كيف تحسّ بالآخرين… حتى ولو كان الثمن هو الجوع. فكما قال إبراهيم الفقي:
“العطاء هو الشيء الوحيد الذي كلما زاد، زاد صاحبه غنىً وسعادة.” وهكذا… ترك خالد درسًا في الحياة لا يُنسى: أن تَجُوع لتُشبع غيرك… هو قمة الكرم. وأن تُخفي عطاءك… هو أسمى درجات الإنسانية. وأن تكون صغيرًا في السن، عظيمًا في الفعل… فذلك يعني أنك خُلقت لتلهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top