|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

في زمنٍ تتنازع فيه الأهواء وتتعثر الخطى، تظل القيادة الرشيدة غايةً ينشدها العقلاء، وملاذًا تتوق إليه الأمم. هي ليست سلطةً تُمارَس، بل مسؤولية تُحتَمل. ليست صوتًا مرتفعًا في المجالس، بل ضوءًا هادئًا يرشد ولا يُعمي. يُروى أن أحد الصالحين سُئل: كم تحب أخاك؟ فقال: “أحبه حبًا يجعلني ألتمس أعذاره، وأتفقد غيابه، وأتشوق للقائه، فإن تبسم فمن مبسمي، وإن تألم فمن أضلعي.” ولو شئنا وصف القائد الراشد، لما خرج عن هذا المعنى… أن يكون قلبًا يسع، ويدًا تمتد، ونورًا لا يخبو.
القيادة ليست مَقامًا يُرتقى إليه، بل حالٌ يُعاش. لا تُقاس بمساحة المكتب، بل بضيق الوقت وسعة الصدر، ولا تُوزن بعدد المتابعين، بل بعمق الأثر. يقول كونفوشيوس: “القيادة بالقدوة ليست وسيلة للتأثير فحسب، بل هي التأثير ذاته.” وما أكثر أولئك الذين تقلّدوا المناصب، ولكن قلّ من لبسوا عباءة القيادة على مقاس الروح. في إحدى قرى الجنوب، نشأ فتى يتيم، يرعى الغنم في سفوح الجبال. لم يكن يملك أكثر من عصا، وصمت طويل. كان إذا تأمل الجبال تلمع في عينيه أسئلة لم يجبها أحد. كبر الفتى، وكبرت معه حيرته: لماذا يتعارك الكبار؟ ولماذا تذبل القلوب حين تتصدر العقول الخالية من الرحمة؟ في العقد الرابع من عمره، عُرضت عليه إدارة مجلسٍ محلي، فرفض أولًا. قال: “لا أريد أن أحكم الناس، أريد فقط أن أفهمهم.” لكنه قبل في النهاية، على مضض العارف بثقل الأمانة. بعد سنوات، أصبحت قريته نموذجًا يُضرب به المثل في الحكمة والعدل والشفافية. ما فعله ليس إعجازًا، لكنه طبق القاعدة الذهبية: كن كما تحب أن يكون من يقودك.
القيادة الرشيدة لا تصرخ، بل تهمس. لا تفرض، بل تُقنع. هي أن تحاور المختلف، لا أن تُقصيه. أن تُنصف المخطئ، لا أن تُجهز عليه. هي حالة دائمة من السعي نحو التوازن بين الحزم والرحمة، بين الطموح والواقعية، بين الفكرة والإنسان. يقول الإمام علي رضي الله عنه: “الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق.” وكل من استحضر هذا المعنى في قيادته، ازدهرت به مؤسسته، وربحت روحه، وفي مؤسسات العمل – صغيرة كانت أو عظيمة – يظهر الفرق بين من يقود ومن يتسلط. القائد الراشد لا يخشى أن يُحيط نفسه بمن هم أذكى منه، لأنه يعلم أن مجده لا يكتمل إلا بهم. لا يعاقب على الخطأ بقدر ما يحوّله إلى درس. يربط الأهداف بالمعنى، لا بالأرقام فقط. يصنع ثقافة تؤمن أن العطاء لا يأتي من الرقابة، بل من الانتماء.
خذ مثلًا نموذج “القيادة الهادئة” الذي طوّره بعض خبراء الإدارة في مطلع الألفية. يقوم على ثلاث ركائز: الإصغاء العميق، اتخاذ القرار بتأنٍ، وبناء الثقة عبر الوقت لا الخطابات. ووجدت دراسات متعددة أن المؤسسات التي يُمارَس فيها هذا النموذج تنخفض فيها معدلات الاستقالة، وترتفع فيها الإنتاجية بشكل ملموس. ليس لأنه نموذج خارق، بل لأنه إنساني. القائد الراشد يعرف متى يتقدّم، ومتى يتأخر ليُفسح لغيره. متى يصمت، ومتى يقول الكلمة التي تُنقذ لا التي تُدين. يعرف أن كل قرار ليس مجرد توقيع، بل مصيرٌ لإنسان. وقد قيل: “ليس القائد من يمشي أمام الركب فحسب، بل من يجعل الركب يمشي حتى وإن غاب لحظة.” أذكر أنني التقيت يومًا بأحد القادة في العمل الإنساني. سألته عن سرّ تأثيره. أجابني بابتسامة واثقة: “كل صباح، أبدأ يومي بعبارة واحدة: كيف أجعل من حولي أفضل؟” لم يقل: كيف أحقق الأهداف، أو أرفع التقارير، أو أكسب الثناء. بل جعل بوصلته في الناس. تلك هي القيادة في أنبل معانيها.
وربما علينا اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن نعيد تعريف القيادة في عقولنا ومؤسساتنا ومدارسنا. أن نعلّم أطفالنا أن القائد ليس من يُعطى، بل من يُعطي. أن نجعل المناصب امتحانًا للروح، لا جائزةً للتنافس. وأن نغرس في نفوس من يقودون غدًا أن الفخر ليس بما تملك، بل بما تُلهم. إن القيادة الرشيدة ليست وصفة جاهزة، لكنها تبدأ من الداخل. من لحظة صدق بين الإنسان وضميره. من سؤال بسيط: هل أنا أُحسن لمن استُرعيت؟ فإن كان الجواب نعم، فاستمر. وإن كان غير ذلك، فلتكن البداية من هنا. وفي النهاية، كما قال غاندي: “كن أنت التغيير الذي تود أن تراه في العالم.” ولعلنا إن بدأنا من أنفسنا، نصبح قادة… لا يُشار إلينا بالبنان، بل يُؤتسى بنا في غيابنا.