دعوةٌ على الجبنة القديمة… ومأدبة لا تنسى من دار أبي مازن

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

محمد تهامي

من القلوب التي تُحبك قبل أن تراك، ومن البيوت التي تعطيك أكثر مما تسأل، ومن الأرواح التي إذا استقبلتك أنزلتك في منزل القلب قبل الدار… تنبع تلك اللحظات التي لا تُنسى، وتُكتب لا بالحبر، بل بنبض الامتنان، وتظل في الذاكرة كأنها تجسيد حي لقول الرافعي: “الكريم إذا وعد وفى، وإذا استُضيف أطعم الحُب قبل الطعام.”

وقعت دعوتنا هذه في دفء الدوحة، مساء الأربعاء، الثالث من يوليو عام 2025، لكنها بدأت أبكر من ذلك… حين سبقها اتصالٌ عذب من الغالي محمد عبدالرحمن “أبو مازن”، ذاك الذي لا يحادثك إلا وكأن قلبه يُصافح قلبك قبل صوته، يُرسل التحايا كأنها شذى، ويغمر السامع بلطفٍ لا يُصطنع. اتصل بي قبل أسبوع، تحية وسلامًا، واستدعاءً للذاكرة والودّ، فكان من بدهيات العرفان أن تكون زيارته أولى خطايَ عند الوصول إلى الدوحة، لا مجاملة، بل لأن بعض الوجوه لا تُؤجل، وبعض اللقاءات لا تقبل التراخي.

ولئن كنت قد عزمت على الزيارة، فقد سبقني هو بالإصرار… دعوة كريمة من أبي مازن، لا تقف عند حدود الضيافة، بل تفيض على صاحبها من شهده الشخصي. كانت الدعوة لعشاء، لكن ليست كأي عشاء؛ بل عشاء على الجبنة القديمة – “المش المصري الأصيل” – هكذا طلبت، وهكذا تمّ الوعد، وهكذا كان الوفاء. دخلنا دارًا لا تُشبه سوى أصحابها… فيها من الطيبة ما لا يُحكى، ومن الحفاوة ما لا يُجسّد، وكان في الاستقبال قلبان يبتسمان: أبو مازن بلطفه المُعتّق، ومن وراء حجاب الفاضلة أم رائد، أيقونة الذوق، وسيدة الدفء، وصانعة البهجة التي تُقال ولا تُوصف.
فنجان الشاي كان أول السُفراء، يليه القهوة العربية تعانق التمر، وتمرية من صنعة أم رائد نفسها، وكأنها تحمل توقيعًا أنيقًا من مطبخٍ لا يُقلّد، بل يُستلهم. نكهة التمرية تلك كانت بداية الرحلة… لم تكن مجرد حلوى، بل بطاقة دخول إلى عالم من الذوق العالي والبساطة النبيلة.

أما المائدة… فقد ترددت كثيرًا قبل أن أصفها، لا لأن الذاكرة لا تسعها، بل لأن الخوف من أن يُفلت منها شيء يجعلني كمن ينقّب عن الكنوز وهو أعمى. لكن سأُجرب… فقط لتأريخ الكرم الذي أحرجنا، والذوق الذي أذهلنا. هناك، في قلب الطاولة، طاجن مسقعة يتوسط المشهد كملكٍ هادئ، تسبقه رائحة تتسلل إلى القلب قبل الأنف. يحيط به بيض مسلوق بالسمن البلدي، وبيض مقلي هو أجمل من أن يُكتب، وطبق فول مزين بقطع طماطم صغيرة، وآخر تتوسطه بيضة مسلوقة كنجمة في سماء الإفطار الريفي. المش المصري الأصيل، بلمسة زيت الزيتون وقطع الطماطم، كان لوحة نكهة أكثر مما هو طبق. إلى جانبه، سلطة بستانية، جرجير متعدّد الألوان، وخيار، ورؤوس فجل، وفلفل بألوانه الزاهية، حتى حسبنا أن الخضار قد حضرت مهرجانًا لا مائدة. وعلى الركن… فلافل مصرية تعلن عن نفسها من رائحتها، ودجاج فيليه مقلي، وزيتون مصري أخضر، وتركي داكن، وجبن رومي، ولبنة بالحبة السوداء، ومربى تين من يدَي أم رائد – وتلك وحدها تستحق قصيدة. مخلل باذنجان مقلي كُتب له أن يكون لا يُوصف، وخبز مصري ساخن، وفطير مشلتت نُقش بالحنان، وليس بالعجين فقط.

ثم انتقلنا إلى المرحلة الثانية، إلى حديقة الفاكهة: تفاحٌ وموزٌ وتينٌ وبرتقال يوسفي وتمرٌ أحمر… وفوق هذا التنوع، إحساسٌ بأن كل قطعة فاكهة قد مُررت من يد الحب قبل أن تصل إلى الصحن.

أما المرحلة الثالثة، فكانت مسكًا على مسك: كيكٌ مُتقنٌ كأن عليه ختم التخصص، وقهوة تركية بنكهة الأمسيات الدافئة، ومشروبات من اللبن وغيره، لتُختتم الحكاية بأناقة لا تُعلم في معاهد الطهو، بل تُولد في البيوت التي تعطي من القلب.

كل ما في الدعوة كان صادقًا… بلا مبالغة، ولا تصنع. كأن أبا مازن وأم رائد قد قررا أن يقولانا لنا: نحن لا نطهو طعامًا، بل نصنع ذاكرة.
ذاكرة ستظل تهمس في القلب: هنا، في الدوحة، في مساءٍ من مساءات المحرم مع اقتراب عاشوراء، من يوليو، تذوّقنا شيئًا من مصر، ومن النخوة، ومن الحبّ النبيل.

وقد تذكرتُ حينها قول عبدالمطلب بن هاشم لما رأى كرم ابنه عبد الله: “إنَّ الكريمَ لا يَستحيي من الكرم وإنْ جاع.” فكيف بمن قدّم الكرم وفيه الاستحياء من التقصير؟ وكأن أبا مازن – فيما قدّم – يُحيي قول ابن خلدون: “الكرم خُلقٌ لا يُدرّب، بل يُورث.” أما الحضور، فلم يخرجوا من تلك الليلة بشبع فحسب، بل خرجوا بـ”امتلاء” من نوع آخر…امتلاء في القلب، وسعة في النفس، وامتنان لا يسعه الكلام.

فجزى الله أبا مازن عنّا خير الجزاء،
وجزى الغالية أم رائد، الجمال في ذوقها، والفن في يدَيها، وجعل بيتهما عامرًا بالخير كما عَمَرنا في ليلتنا تلك. وليُكتب في دفتر الذكريات:
“في بيت أبي مازن، تُطعمك الأيادي… وتؤثرك القلوب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top