من دعوة عبر الهاتف… إلى مائدة لا تُنسى

Getting your Trinity Audio player ready...
محمد تهامي

محمد تهامي

محمد تهامي

في مساءٍ من مساءات الله، حين تُطوى صفحات الأيام فلا يبقى فيها إلا ما يُكتَب بالنّية، جاءني اتصال… بصوتٍ أعرفه جيدًا، لا يطلب شيئًا، بل يعرضك على الكرم نفسه. إبراهيم قابيل، ذاك الذي إذا دعاك، تذكرت بيت المتنبي:
“إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا”
لكن إبراهيم لا يحتاج إلى إكرام، لأنه من بيتٍ إذا دعاك إلى الطعام، أطعمك من نفسه. قال ببساطة تشبه نور الصبح:” إفطار عاشوراء… حياك الله.” ثم أردف: “معنا أم رنا.” هنا… توقّف الزمان.لأن “أم رنا” ليست شخصًا فقط… بل امتدادٌ لأرواحٍ نسائية عرفناها فأحببنا الدنيا بوجودهن. هي من عائلة أمي رحمها الله، من تلك الأرواح التي لا تطبخ الطعام، بل تكتب التاريخ بالنَكهات. كنت قد اعتذرت لكثير من الأصدقاء عن دعوات الإفطار في هذا اليوم العظيم…
لكن عبارة إبراهيم سحبت منّي كلّ أعذار الدنيا، لأن بعض الدعوات لا تُلبّى بموعد، بل تُلبّى بوفاء.
جاء يوم عاشوراء، وفي قلب الكويت، وفي زحام المشاغل والحر، رن الهاتف مرّة أخرى…إبراهيم يتابع خطواتي، وكأنه لا يريدني أن أضيع عن مائدة، قد أُعدّت بروح. صلّينا المغرب…ثم امتدّت أمامنا سفرةٌ ليست من هذه الأرض. بل مائدة تشبه سورة الكوثر…عطاءً، حنانًا، فيضًا لا يُوصف. بدأت بـشوربة لسان العصفور…شوربة؟ لا، بل دفء أمومة مذاب في ماء اللحم.
ثم الدجاج المحمر، جاء بلونه الذهبي كأنه يلبس ثياب العيد.ثم صينية اللحم والبصل… طبق لا يُؤكل، بل يُشَمّ ويُبكى عليه، كأن في نكهته طيف امرأة مرّت من هنا ذات حنان.
والمحاشي…يا الله المحاشي!
• ممبارٌ يقول لك: هذه مصر.
• كرنبٌ لا يُلف، بل يُضمّ.
• كوسة خضراء حانية كعشب الضفاف.
• باذنجانٌ أسود لكنه يحمل نور الذاكرة.
وفي أطراف السفرة، جلست السلطات في خجل، كأنها تقول: لسنا الأساس، لكن لا تكتمل المائدة بدوننا. ثم جاءت الفاكهة… لا كطعام، بل كأغنية حب صامتة: بطيخٌ يطفئ جمر يوليو، عنبٌ يُنطق الصمت، و”إنجاص” يذوّب حنينًا لا يُقال.
ثم الشاي، ثم الكيك، ذاك الكيك الذي لم يُصبغ بزينة السوق، بل بزينة الدعاء في يد أمٍ صنعت الحلوى بروحها. كيكٌ لا يُوصف، لأنه حكاية صامتة عن امرأة عظيمة اسمها: أم رنا. ثم… لم ينتهِ الكرم. بل تقدّمت أم رنا… بحقيبة صغيرة. ظننتها هدية، فإذا بها سفرة كاملة لأخذها معي. فمن أي زمن أتت هذه المرأة؟ هل تنتمي لعصرنا؟ أم أنها خرجت من زمن الخنساء، أو من بيت سيدة نساء العالمين؟ في الطريق إلى المنزل، تذكّرت قول الشيخ الشعراوي: “النية هي المعيار، وليست المظاهر… فالنية الطيبة تجعل من اللقمة مائدة، ومن اللقاء ذكرى، ومن الدعوة ميثاقًا لا يُنسى.” وقد كانت نية إبراهيم… من طراز لا يتكرر. وكانت يد أم رنا… من سلالة لا تموت. في يوم عاشوراء، حين ينجو المؤمنون بدعائهم، نجوتُ أنا بـمائدة، كانت دعاءً، ومغفرة، وحبًا لا يُنسى.
فيا إبراهيم، يا ابن الكرم، وظله، ورسالته، أكرمتني في زمنٍ شحيح، فجزاك الله بأضعاف كرمك. ويا أم رنا، يا من أعادت للأمومة صوتها عبر الطّبخ، لك دعائي كلما شممتُ رائحة طاجن، وكلما وضعت لقمةً في فمي، وكلما تذكّرت أن الحب… يُطبَخ أحيانًا، لا يُقال فقط. هل هذه مائدة؟ لا …هذه قصيدة طبختها امرأة، وغنّاها رجل، وعاشها ضيف. والسلام على من طبخ بحب، ودعا بنية، وكتبَ ذكرى…لا تمحُوها الأيام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top