|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

في زمنٍ كثرت فيه الوجوه وقلّت الهمم، وازدحمت المنابر وندر الأثر، تخرج إلينا امرأة ليست ككل النساء. لا تحمل رتبة رسمية، ولا تسعى لألقاب إعلامية، لكنها تحمل قلبًا يسع أممًا، وعزمًا يشقّ الجبال، وابتسامة تذيب قسوة الحياة من على وجوه المساكين. إنها أم لؤي… اسمٌ حين يُذكر، تُفتح نوافذ الطمأنينة، وتنتفض الذاكرة بصور لا تُنسى: مشهد، ودمعة، وضحكة، وغرس.
رقة مشاعر لا توصف
قلب أم لؤي ليس مثل القلوب. هو مرآة صافية تعكس كل ما هو نقي، وتلتقط وجع الآخرين كأنّه وجعها. تدمع عيناها عندما تسمع أنين طفل، ويضيق صدرها إن جاع فقير. مشاعرها جياشة كالسيل، لكنها رقيقة كندى الفجر، وعذبة كدعاء أمٍّ تهمس به في جنح الليل لأجل أبنائها.
من قلوب الأمهات إلى قلوب الشعوب
في رحلتها الأخيرة إلى كينيا، لم تكن رحلة تطوعية عابرة، بل ملحمة إنسانية ترويها الدموع قبل الأقلام. كان الفريق التطوعي المرافق لها شعلة من الإيمان والعمل، لكن أم لؤي كانت قلب هذا الفريق النابض. وبين القرى البعيدة، دخلت امرأة الإسلام على يد الفريق، وبعد أن نطقت الشهادة، كانت أول حضن يلفها هو حضن أم لؤي… وكأنها الأم الأولى التي تستقبل مولودها الأول.
ثم جاءت طفلة تُدعى رحمة، بوجه يختصر أحلام الطفولة وبراءتها، وقالت لها: “أمنيتي أن أكون مثلك يا أمي…” في لحظة، دون تفكير أو مشاورة، التفتت أم لؤي إلى مدير المؤسسة وقالت: “رحمة تُكفَل الآن، من هذه الساعة… حتى ترى منّا ما تحقق به أمنيتها.” أهذا مشهد؟ بل هو حياة تُكتب بحبر الرحمة.
الرحلات… حيث كل موطنٍ غرس
أم لؤي لم تكن زائرة عابرة للأماكن، بل كانت راعية لآمال أهلها. في 10 سنوات، شاركت في 44 رحلة، ما بين قرية نائية ومدرسة فقيرة ومستشفى متهالك. في كل موطن، تُغرس شجرة، تُبنى بئر، تُكفل يتيمة، وتُمسح دمعة. ليس ذلك ترفًا من عطاء، بل قدرٌ يسكنها، وكأنها خُلقت لتكون بلسمًا للمجروحين، ويدًا للمتعبين، وصوتًا لمن لا يُسمع.
قيادة تلهب المشاعر وتبعث الهمم
كانت إذا وقفت أمام الفريق، أحيت فيهم ما خمد، وبثّت فيهم من الحماسة ما يعجز عن وصفه اللسان. تلهب المشاعر بخطاب لا يُنسى، وتبعث الهمة بحضور يُشبه زخم القادة العظام. كانت تجمع بين رقّة الأنثى ووقار القيادة، بين دمعة الرحمة وصرخة الحزم.
حبها للخير… فلسفة حياة
قال ابن خلدون: “الخير ليس ما تملكه، بل ما تتركه في قلوب الناس.” وها هي أم لؤي، تترك في كل قلب أثرًا، وفي كل دار بصمة. كانت ترى الفقير تاجًا على رأسه، واليتيم نبعًا للبركة، والمحرومين فرصةً ليكونوا أعظم معلمين في مدرسة الحياة.
الاستدلال بالعظماء… ولكن بمثال حيّ
الرافعي قال ذات يوم: “ما ارتفعت النفس إلا بما تحمل من معاني الرحمة.” فلو رآها، لأعاد صياغة كلماته ليقول: “إن الرحمة اسمها أم لؤي.” وإن سُئل الغزالي عن تزكية النفس بالعمل، لجعلها مثالاً. وإن تحدث العقاد عن المرأة المؤمنة القائدة، لاتخذ من سيرتها سيرةً لا يُملّ منها.
نقاء وصفاء ووفاء
مع كل هذا العطاء، لم تغيرها الأضواء، ولا أفسدها الثناء. ظلّت أم لؤي كما هي: نقية، صادقة، صافية كالماء الأول، وفية لأصدقائها، شغوفة بأهل الخير، محبة لأسرتها، حاضنة لرسالتها.
خاتمة: اسمٌ لا يُنسى… وأثرٌ لا يُمحى
إن أم لؤي ليست مجرد اسم في سجل الرحلات، ولا رقمًا في قوائم الداعمين، بل هي نبضٌ في قلب كل يتيم، ودمعة فرح على خدّ كل فقير، ودعاء لا يُفارق الثرى. في زمنٍ بات فيه العطاء يُقاس بالمردود، والقيادة بالشهرة، كانت هي استثناءً نادرًا، يجمع بين الروح والعمل، بين الحب والتخطيط، بين الحضور والتواضع.
أم لؤي… كل ما فيكِ يعلّمنا أن المرأة إذا حملت همّ أمتها، تحوّلت إلى أمة وحدها.
