|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

ذات مساءٍ هادئ، وفي لحظةٍ بدت عادية، وردتني رسالة قصيرة من صديق، أنهى للتوّ رحلة عطائه في مؤسسةٍ خدمها سبعةً وعشرين عامًا. لم يكن يشكو، ولم يكن يفاخر، بل كتب بلهجة رجلٍ مرّ من عنق الزجاجة، ثم نظر خلفه لا ليودّع، بل ليشكر. قال: “من باب التحدث بنعمة الله، لا التباهي؛ ومن باب الامتنان، لا التبرم… بُورك لي في أبنائي، ووفّقهم الله فيما سعوا إليه، ولحقت إحداهن بفرصة عمل في التوقيت الذي كاد أن يُغلق فيه الباب. وفي عملي، وبعد 19 شهرًا من الصبر، جاءت أول ثمرة ملموسة في جانبٍ اجتهدت فيه طويلًا. حتى قلبي، الذي أنهكته الأيام، رقّ حين عدت وتواصلت مع أرحامي بعد انقطاع طويل. ورأيت من حول ابنتي ما يشبه دعوة من السماء تمشي على الأرض.” ثم ختم رسالته بجملةٍ تقطع الحواس، “أقلّ هذا لمن أعلم أنه يحبني ويقدرني، ووالله ما ذكرته إلا غيضًا من فيض… ولولا أمانات أودعت صدري، لبُحت بها.”
لحظتُها، أدركت كم من الناس يُرزقون نعمًا، لكنهم يفقدون حلاوتها لأنهم يضعونها في قلوبٍ لا تفرح، أو يُودِعونها آذانًا لا تحفظ. فالنعمة، حين تُقال أمام من لا يحمل لك ودًّا، تُنزَع منها البركة، وحين تُقصّ على من لا يفهم طهر نيتك، تتحول إلى تهمة، أو حسرة، أو لعنة.
لقد أحسن هذا الصديق. لم ينسب الفضل لنفسه، بل ذكر زوجته — شريكة الدرب — بكل تقدير، كأنما يقول: “ما كنت وحدي، بل هي الدعاء المجهول، والكتف المستور، والدفع الصامت من الخلف.” فكان وفاؤه جزءًا من بركته.
ثم نظر إلى صلته بأرحامه لا كحدث عابر، بل كإحدى علامات الفتح…
كأنما يقول: “ما دام الله يردّني إلى أهلي بعد طول جفاء، فهو لا يزال بي رحيمًا.”
لقد تذكّرت في رسالته مشهدين من القرآن:
• يعقوب، حين قال: “لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا…”
• ويوسف، بعد سنين، حين قال: “هذا تأويل رؤياي من قبل، قد جعلها ربي حقًا…”
في الأولى، كتمان، اتقاءً لشرّ النفوس.
وفي الثانية، شكرٌ هادئ بعد التحقق… لا قبله. وما بينهما، صبر، وسكون، وتوكّل
إننا اليوم نعيش في زمنٍ غريب:
يُطلَب منك أن تُخفي حزنك كي لا تُزعِج، ثم يُطلب منك أن تُخفي فرحك كي لا تُحسَد. حتى النعمة، باتت تُدار بحذر… لا عن جحود، بل عن حكمة. لكن الحلّ ليس الصمت الكامل، ولا البوح المفتوح. الحلّ، أن تعرف لمن تروي. أن تدرك أن بعض القلوب إذا سمعت توفيقك قالت: “ما شاء الله، اللهم زد وبارك.” وأخرى، تُخفي تنهيدة حاسدة خلف ابتسامة مجاملة.
لهذا… حين تُرزق بنعمة، فاختر جيدًا لمن ترويها. ارْوِها لمن يُفرحك فرحه، لا يُرهقك فضوله. ارْوِها لمن يرى فيها جمال حكمة الله، لا ضعفًا في عدله. ارْوِها لمن يسأل بعدها: “كيف أستحق مثلها؟” لا: “لماذا ليست لي؟” وما أجمل أن ترويها لمن لا ينظر إلى النعمة، بل إلى النعمة التي أنت لها… فتكون له أنت النعمة، لا ما نلته.
ما كتبه صاحبي لم يكن فقط شكرًا، بل كان عبادة. وما كتبتُه هنا، ليس فقط تعقيبًا… بل وفاءً لنُبلٍ نادر في هذا الزمان. اللهم ارزقنا نعمًا تدوم، وقلوبًا تصون، وصحبةً إذا روينا لهم الفضل، قالوا: “الحمد لله الذي أنعم عليك.