|
Getting your Trinity Audio player ready...
|

محمد تهامي
خبير التطوير المؤسسي

في غزة، حيث يختلط صوت الموج بأنين الجرحى، وتتنفس الأزقة رائحة الخبز الممزوجة بالدخان، تنبت حكاية لا تشبه أي حكاية، وتظل شجرة الزيتون هناك واقفة، كأنها تحفظ سر الله في الأرض. جذورها ممتدة في عمق التراب، كأنها ترفض أن تغادر، وأغصانها تعانق السماء، كأنها تصلي في صمت لا ينكسر. غزة هي تلك الشجرة، مضمخة برائحة التاريخ، تتحدى كل عاصفة، وتبتسم رغم أن الريح تقطع أوراقها ورصاص الغدر يشق أغصانها. الزمن في غزة لا يمضي كما في سائر المدن، إنه ينساب على إيقاع آخر، كأن عقارب الساعات هنا تتوقف عند لحظة الصمود. الأطفال هناك يذهبون إلى مدارسهم بين ركام البيوت، يكتبون واجباتهم على ضوء شمعة، ويحفظون جداول الضرب في قلب الحرب. الأمهات يخبزن الخبز على نار الحطب حين تنقطع الكهرباء، ويُسَكِّنَّ الجوع بابتسامة حانية، كأنها وعد بأن الغد سيكون أجمل مهما طال الليل. الشيوخ يجلسون تحت شجرة الزيتون ذاتها التي شهدت الانتفاضة الأولى، يحكون للأحفاد عن حصار قديم وعن قوافل لا تنقطع من التضحية.
هذه الأرض تعرف الشهداء بأسمائهم، تحفظهم كما تحفظ الشجرة ثمارها قبل أن تطرحها في موسمها. هنا كل حجر يعرف قصته، وكل شارع مر به موكب جنازة أو زفة عروس في زمن الحرب. في غزة، لا تنكسر الجذور وإن بُترت الأغصان، ولا تخبو الحياة وإن أطفأوا كل مصابيحها. شجرة الزيتون ليست مجرد رمز للسلام كما يظن البعض، إنها في غزة رمز للثبات والمقاومة، فهي تعيش مئات السنين، وتثمر في أصعب الظروف، وجذورها تتشبث بالأرض حتى لو جرفتها السيول. كذلك أهل غزة، يتشبثون بأرضهم وأحلامهم وحقهم في الحياة، حتى لو انهار العالم من حولهم. في كل موسم حصاد، حين يجتمعون حول أشجارهم، تكون تلك لحظة تحدٍ للعالم بأسره، إعلانًا أن الحياة هنا مستمرة رغم كل ما يُراد لها.
كم مرة حاول الغزاة أن يقتلعوا الزيتون من جذوره؟ وكم مرة عاد ونبت من جديد؟ وكم مرة اعتقد العالم أن غزة انحنت، فإذا بها تعود أرفع قامة من قبل؟ إنها ليست مجرد جغرافيا، إنها روح تسكن الأرض وتورثها من جيل إلى جيل، كما يورث الفلاحون غرس الزيتون لأولادهم وأحفادهم. في ليالي الحصار، حين تتساقط القنابل كالمطر الثقيل، وتختبئ العصافير في أعشاشها خوفًا، تبقى شجرة الزيتون صامتة، لا تهتز إلا بما تتيحه لها الريح، وتبقى غزة مثلها، لا تتزحزح عن مكانها، لا تتنازل عن مواقفها، ولا تبيع كرامتها ولو جاع أطفالها. هذه القدرة على البقاء وسط العاصفة هي ما يجعل العدو حائرًا، والعالم عاجزًا عن فهم سر هذا الثبات.
هنا، لا يُقاس العمر بعدد السنين، بل بعدد المرات التي نهض فيها الناس من تحت الركام، وعدد المرات التي صنعوا فيها من الألم أملًا، ومن الخسارة انتصارًا معنويًا. هنا يتعلم الطفل قبل أن يحفظ الحروف أن الوطن لا يُعطى، بل يُنتزع، وأن الكرامة لا تُشترى، بل تُصان بدم القلب. وإن سألت أحدهم: ما الذي يجعلكم تصمدون؟ سيقول لك: نحن مثل الزيتون، جذورنا في الأرض أعمق من أن تُقتلع، وأغصاننا في السماء أسمى من أن تُكسر. نحن لا نحيا لنأكل ونشرب فحسب، بل لنكون أمناء على إرث من سبقونا، ولنسلم الأرض لمن سيأتون بعدنا، كما استلمناها طاهرة، ندية بدماء الشهداء.
وليس الغريب أن ترى في غزة مشهدًا يبدو للغريب متناقضًا؛ جنازة شهيد تمر بجانب عرس، ودمعة أم تختلط بضحكة طفل، وحقل زيتون يثمر بجوار جدار مدمر. لكنها ليست تناقضات بقدر ما هي طبيعة الحياة هنا: الحزن والفرح يسكنان البيت ذاته، واليأس يطرق الباب لكن لا يجد مكانًا ليستقر، لأن الأمل دائمًا أسبق إلى القلب. كم من أمّ هنا ودّعت ابنها وهي تزغرد، وكم من أب زرع زيتونة في ذكرى ولده الشهيد، ليقول للعالم: الموت لا يهزمنا، بل يجعلنا أكثر حياة. إنك حين تمشي في طرقات غزة، ستشعر أن كل شجرة، وكل حجر، وكل باب، له قصة يرويها عن البقاء.
وغزة لا تطلب من العالم شفقة، بل موقفًا. فهي قادرة على الوقوف وحدها، لكنها تعرف أن في الخارج قلوبًا تحبها، وأيادي تستطيع أن تسقي زيتونها بماء العون، وأن تحمي أغصانها من رياح الظلم. وكل من ينظر إليها من بعيد ولا يفعل شيئًا، كمن يرى شجرة تُحرق ولا يمد يده ليطفئ النار. وغزة، مهما تكالبت عليها الرياح، ستبقى شجرة زيتون ضاربة الجذور في تربة الإيمان، تمتد أغصانها نحو السماء لا لتطلب، بل لتشهد. وإذا كانت أغصانها تعانق الغيم بثبات، فإن دورنا ليس أن نصفق لها من بعيد، بل أن نكون الماء الذي يسقيها حين يجف المطر، والسور الذي يحميها من أيدي العابثين، والظل الذي يأوي إليه أهلها من لهيب المحن. فالصمود وحده لا يعيش بلا سند، والكرامة لا تبقى بلا من يذود عنها. إن غزة تحفظ العهد، فهل نحفظ نحن الوعد؟